حسين شبكشي

 وصلت إلى نيويورك أو «التفاحة الكبيرة»، كما يطلق عليها عشاقها، في رحلة طويلة زاد من معاناتي فيها جلوسي في الطائرة إلى جوار محامٍ شديد التعصب والجهل والعنصرية.

بدأ جاري حديثه معي معلقاً على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة التي وصفها المعلقون بأنها شديدة العنصرية لأنها تهين شعوباً ومناطق بأكملها، وتصفها بأبشع الصور وأردأ الأوصاف. وبدأ الرجل في حوار سطحي عنصري مريض وهو يحاول «تبرير» رأي ترمب وأن الطبقية «موجودة» في المجتمعات والأديان، ولذلك أباح الشرع التطليق لعدم «كفاءة النسب». طبعاً لم أستغرب من هذا الرأي، فهو موجود ومنتشر ومستفحل ومؤسس ومؤصل، أما الخطورة فتكمن في أن هذا الطرح لا يستخدم فقط في الطلاق، بل عند تقييم المترشحين للمناصب والوظائف والتدريب والتعيين والابتعاث وكل أوجه الحياة التي لا ينالها إلا من يتحقق فيه «كفاءة النسب». إنها التطابقية الممنهجة مثل تلك الموجودة في جنوب أفريقيا قديماً والهند وإسرائيل اليوم. وصلت أميركا والحوار في هذه المسألة، تصريحات الرئيس ترمب ومواقفه تأخذ حيزاً هائلاً. مساحة الحرية كبيرة والمجال المفتوح للنقد والتأييد، فهناك سقف القانون يحمي حق الكلمة ويحفظ للمتضرر حقه.
أميركا بلد محير وعجيب، يعيش مكتفياً بنفسه، هذا حال المواطن الأميركي فيها. الأخبار المحلية تحتل العناوين دوماً وبطولات الرياضة المحلية يطلق عليها بطولة العالم، لاعتقادهم أن العالم يدور حول أميركا. فلذلك ابتسم حينما يطلق المواطن المصري على بلاده مصر اسم «أم الدنيا»، والمواطن اللبناني يسمي مدينة بيروت «ست الدنيا»، وبهذا المعنى إذن أميركا هي الدنيا نفسها ولا شك!
كنت أتناول القهوة في بهو أحد الفنادق الصغيرة في نيويورك، وحضر للمكان مجموعة من كبار التنفيذيين في عالم الأعمال النيويوركي ما بين محامين ومديرين ماليين، ودار حديثهم عن جوانب مثيرة وغير تقليدية في تناول زوايا تحليل علاقة روسيا بترمب و«المؤامرة» التي تحيكها ضد الولايات المتحدة. يتلخص الرأي فيما هو آتٍ: روسيا تريد أن «تحقر» في نظر العالم النموذج الديمقراطي الغربي كبديل سياسي وإقناع العالم بأنه نظام فاسد ومخترق ولا يمكن الاعتماد عليه، وأن البديل الذي يمكن الوثوق به هو نظام الرجل القوي الذي يؤمن الاستقرار (يمثله في النموذج الأهم أسلوب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتأكيد)، ويشير أيضاً إلى أن الساسة في الغرب يمكن «شراؤهم» عبر استمرار إغراق وسائل الإعلام بالأخبار الكاذبة التي «ترسخ» أكثر فأكثر فكرة أن الروس تمكنوا من التأثير في الانتخابات الأميركية ووضع أناس محسوبين عليهم داخل الإدارة الجديدة الحالية، وهي مسألة تهز الثقة في المنظومة الحاكمة ولا شك، كما يشكك الرأي نفسه في «توقيت» نزول الكتاب الجديد «النار والغضب» لمايكل وولف شديد الانتقاد للرئيس ترمب ولماذا طرح الآن تحديداً ولم يطرح كما هو متبع خلال فترة أعياد الميلاد، وتفسيرهم أنه جاء في هذا التوقيت تحديداً ليفسد بهجة ترمب وإدارته بنجاح تمرير القانون الضريبي الأهم في تاريخ أميركا المعاصر.
أميركا لا تزال اللاعب المؤثر الأكبر عالمياً، فهي الترسانة العسكرية الأكبر والاقتصاد الأضخم والإعلام الأخطر، وحقاً كما قالوا إذا عطست أميركا أصيب العالم بالزكام، ولكنها بعد اليوم إذا عطست أصيب العالم بالتهاب رئوي حاد جداً!