صالح القلاب

 

 

 

لتسديد حسابات قديمة وجديدة، أدرجت إيران اسم مسعود بارزاني على قائمة الذين اتهمتهم بالمسؤولية عن افتعال الأحداث الأخيرة، التي سمّاها البعض «ثورة»، وسمّاها آخرون «انتفاضة»، وسمّتها دوائر الولي الفقيه «عمليات شغب وفوضى»، والحقيقة أن الأسباب الحقيقية والفعلية لهذا الاتهام هي أن هذا الزعيم الكردي الذي حلًّ باكراً محلّ والده الملا مصطفى بارزاني كان رفض الاستجابة لطلب عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين، من بينهم قائد ما يسمى «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، في إعطاء بلادهم ممراً بريّاً «كوريدور» عبر أراضي إقليم كردستان العراق في اتجاه الأراضي السورية.


وفي حين أن الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، الذي كان انشق سابقاً ومنذ فترة بعيدة عن حزب «البارتي» وعن الملا مصطفى بارزاني كان قد استجاب لهذا الطلب الإيراني وحول مدينة السليمانية إلى موقع متقدم لحراس الثورة والمخابرات الإيرانية «اطلاعات»، فإن مسعود بارزاني قد أصرَّ وبقي يُصرُّ على أن إقليم كردستان وعاصمته مدينة أربيل لا يزال جزءاً من الدولة العراقية والوطن العراقي، وهكذا وبالتالي فإنه لا يستطيع إعطاء الإيرانيين الممر البري الذي يريدونه، لأن قراراً كهذا يجب أن يصدر عن بغداد وعن الدولة العراقية، وليس عن هذا الإقليم الذي لا يستطيع الإقدام على خطوة كهذه الخطوة التي ستعني، إن هي تمّت بالفعل، أنها احتلال إيراني لأرضٍ لا يحق لأي كان التصرف بها إلا الشعب العراقي ومؤسساته الدستورية.
ولعلَّ ما تجب الإشارة إليه أن الإيرانيين قد مارسوا كل ما لديهم من ضغوط لحمل هذا المسؤول والقائد الكردي على الاستجابة لطلبهم هذا آنف الذكر الذي هو «الوصلة» الرئيسية والضرورية للممر البري الذي يربط طهران بشواطئ البحر المتوسط، والذي قد تم إنجازه، وللأسف، ولكن من خارج حدود هذا الإقليم الكردستاني - العراقي، وعبر الحدود العراقية - السورية، وصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية، حيث «جمهورية» حسن نصر الله التي غدت تشكل قاعدة عسكرية إيرانية تتحكم سياسياً بلبنان وعملياًّ بكل الأراضي اللبنانية.
لقد بقي مسعود بارزاني مصراً على موقفه هذا رغم كل ما مارسه الإيرانيون عليه من ضغوطات، ويقيناً أنه لولا الوجود والحضور العسكري الأميركي في هذا الإقليم، وفي أجزاء أخرى من العراق، لكان الإيرانيون قد حققوا هدف تمرير «كاريدورهم» البري هذا عبر أراضي كردستان العراقية، مما يعني أنهم كانوا سيطوقون تركيا عسكرياً من الجبهة الجنوبية، وهنا فإن هذه مسألة لم يأخذها رجب طيب إردوغان بعين الاعتبار عندما بادر إلى الاصطفاف وراء الولي الفقيه وحسن روحاني و«الحرس الثوري» لإحباط عملية الاستفتاء التي أجراها هذا المسؤول الكردي في كردستان العراقية.
ربما حسابات مسعود بارزاني كانت غير دقيقة، لا بل ربما تكون خاطئة، عندما أصر على الذهاب إلى هذا الاستفتاء رغم نصائح الأصدقاء، ورغم تهديدات الإيرانيين وامتداداتهم السياسية والأمنية والعسكرية في العراق، ولعلّ الخطأ الفادح، الذي ارتكبه هذا الزعيم الكردي، الذي ما زال يحتفظ بهذه الزعامة حتى الآن، والواضح أنه سيبقى يحتفظ بها ما دام على قيد الحياة، هو أنه لم يأخذ في اعتباره، رغم أنه صاحب تجارب مرة على هذا الصعيد وفي هذا المجال، أن الخطر الذي كان وسيبقى يواجه حق تقرير المصير للأكراد العراقيين وللأكراد في كل مكان هو الخطر الإيراني أولاً والخطر التركي ثانياً، وأنه لا مشكلة فعلية لهؤلاء مع العرب... مع سوريا تحديداً، حيث إنهم أي الكرد، كانوا وما زالوا جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي، وأيضاً الثقافي، لهذا البلد الذي ومنذ فجر الاستقلال، في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، قد تناوب على موقع رئيس الجمهورية والمواقع العليا الأخرى فيه عدد من أبناء «الأقلية الكردية» الذين قبل ظاهرة عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستاني - التركي الـ(p.k.k) لم ينظر إليهم الشعب السوري بأكثرية أحزابه، وبما فيها الأحزاب القومية، على أنهم أقلية قومية.
لقد بقي رجب طيب إردوغان يستنجد بمسعود بارزاني، كلما اشتد عليه ضغط الـ«p.k.k»، أي حزب العمال الكردستاني - التركي، الذي كان ولا يزال يحتفظ بوجود عسكري رئيسي في مناطق جبل قنديل، وفي الأجزاء الشمالية من كردستان العراقية، حيث حدود العراق تتداخل مع حدود تركيا، وهنا فلعل كل من لم تصدأ ذاكرته بعد لا يزال يتذكر كيف أن الرئيس التركي قد استضاف الزعيم الكردي في مهرجان حاشد لأكراد تركيا، أقيم في مدينة ديار بكر، وحيث حرص على أن يظهر ملتصقاً به أمام أعداد هائلة من أبناء الشعب الكردي، قدرت وقتها بأنها اقتربت من المليون، والبعض قال إنها تجاوزت هذا العدد بكثير.


المهم أن مسعود بارزاني قد دفع ولا يزال يدفع ثمن تمسكه باستقلاليته واستقلالية شعبه عن إيران أولاً، وعن امتدادات الولي الفقيه في العراق ثانياً، وأيضاً عن تأثيرات تركيا ورئيسها إردوغان في هذا الإقليم الكردستاني، وهنا فإن المفترض أنه بات من المعروف أن الأخطر من هذا كله أنه ثبت أن لإيران اختراقات داخل المجموعة البارزانية نفسها، وربما على أعلى المستويات، وهذا بالإضافة إلى مجموعة السليمانية «الطالبانية» وهو ما أضعف هذا الرجل ودفعه إلى تقديم تنازلات كثيرة، على رأسها تراجعه عملياً عن «الاستفتاء» آنف الذكر، والغريب لا بل المستغرب أن الأميركيين إن هُمْ لم يتخلوا عنه، فإنهم لم يساندوه في كل هذه المواجهات، وفي معركة بالنسبة إليه وإلى عائلته تعتبر معركة مصيرية، ولكنها ليست نهائية.
لقد بقي الأكراد منذ سقوط نظام «البعث» وصدام حسين في عام 2003 رقماً رئيسياً في الحكم العراقي، ولعلَّ أكبر خطأ ارتكبوه خلال الوضعية المستجدة، بعد الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، في ذلك العام، أنهم تحالفوا مع إيران ومع امتداداتها المذهبية والسياسية على الساحة العراقية، وأنهم ابتعدوا عن «المكوِّن السني»، بل إنهم عادوه على أساس أنه هو النظام السابق، وأن النظام السابق هو، وهكذا فإن المفترض أنهم اكتشفوا أنهم ارتكبوا خطأ، ليس فادحاً فقط بل وقاتلاً أيضاً، عندما لم يدركوا أن تحالفهم مع جهة مدعومة من قبل دولة إقليمية رئيسية سيجعلهم تابعين لهذه الدولة وامتداداتها باستمرار، وحقيقة أنَّ هذا هو ما حصل بالنتيجة، وإن هو واقع الحال على الأقل في منطقة السليمانية التي تعتبر العاصمة الثانية لمنطقة الحكم الذاتي الكردية.
لكن ومع حالة التشرذم التي بات يعيشها الأكراد، وبخاصة خطوة «الاستفتاء» غير الموفقة آنفة الذكر، فإنّ بإمكان مسعود بارزاني أن يلتقط زمام المبادرة مرة أخرى، ويعيد الأمور إلى أنصبتها السابقة، فالإيرانيون باتوا غير مرحب بهم، لا بل غدوا مكروهين في العراق كله، ومن الطائفة الشيعية قبل الطائفة السنية، ثم والواضح أن مجموعة جلال طالباني، ومعها كل أتباع إيران قاسم سليماني و«اطلاعات» و«حراس الثورة» لم تعد قادرة على تحدي البارزانيين الذين هناك فرصة كبيرة لاستعادتهم ألقهم السابق، ولاستعادة مسعود بارزاني مكانة الرقم الرئيس في المعادلة الكردستانية، ورقماً رئيسياً في المعادلة العراقية كلها، وهذا بالطبع يتوقف وإن بحدود غير رئيسية على إمكانية تفسخ التحالف التركي - الإيراني، الذي هو تحالف ضرورات ومصالح مؤقتة من الواضح أنه سينهار أمام ضغط التمحورات المتلاحقة على الساحة السورية، وحيث إن انشغالات الروس بمستجدات الأوضاع في أوكرانيا قد تقلص أو تنهي وجودهم في سوريا!!