محمد علي فرحات 

«خبز، حرية، كرامة وطنية» هو الشعار المستمر للحراك الاجتماعي والسياسي في تونس، خلال سنوات سبع عجاف بدأت بالثورة على حكم زين العابدين بن علي مطلع العام 2011. كان محمد البوعزيزي الذي أنهى حياته يأساً منطلق الأحداث التي امتدت في المنطقة وسمّيت ربيعاً عربياً. وحين جدّد التونسيون رفع رغيف الخبز شعاراً دعتهم الحكومة إلى الصبر سنة واحدة (2018) لسداد دفعة كبيرة من الدين الخارجي، لكن إصرار المتظاهرين نهاراً وليلاً أدى إلى قبول إعادة تصويت البرلمان على قانون المالية بعدما خصصت الحكومة أموالاً لمساعدة الشريحة الاجتماعية الأكثر فقراً.

الشعوب لا تطيق صبراً في عصر العولمة وسرعة وصول المعلومات (الحقيقية أو المفبركة)، وثمة فقدان ثقة بالليبرالية على رغم أن النظام الدولي لا يسمح بغيرها نهجاً للحكم في أي بلد، فقد انطوت مرحلة الحكومات التي تؤدي دور الأب الراعي وتطلب من المواطنين السمع والطاعة. وحين يجدد التونسيون رفع شعار الرغيف يمنعون مجدداً خطف حراكهم الاجتماعي من جهتين، العدمية اليسارية والشمولية الدينية. لقد استطاع المجتمع التونسي إنقاذ مدنيّة الحكم بقوة ثقافته الحديثة وتماسكها، فوصلت حكومة «النهضة» الإسلاموية إلى طريق مسدود، ودفعت ثمن غضّها النظر عن متطرّفي «القاعدة» الذين طعنوا خاصرة تونس محاولين تحطيم مجتمع أصدر سنة 1861 الدستور الأول في عصر النهضة العربية وحقّق توازناً حضارياً بين البحر والصحراء في مزيج متوسطي إسلامي أفريقي تشكّلت منه الشخصية التونسية.

ولكن، يبقى رغيف الخبز شعاراً.

فمنذ العام 2011 هاجر حوالى أربعة آلاف كادر ثقافي وأكاديمي من تونس إلى أوروبا وشمال أميركا بمن فيهم مئات الأطباء المتخصصين، ذلك مع خروج مئات المتطرفين الإسلاميين الذين التحقوا بمواطنين سبقوهم إلى «القاعدة» ثم إلى «داعش» حيث يشكّل التونسيون الفئة الأكثر حيوية في التنظيم المعادي للاجتماع البشري الطبيعي. هكذا تصدّر تونس نقائضها إلى العالم بعدما عجزت حكوماتها، منذ شيخوخة بورقيبة وخفّة وإهمال زين العابدين بن علي، عن حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بجدّية، ومواجهة انكفاء الجارين الإقليميين، ليبيا والجزائر، وتراجع الأمل بالهجرة إلى أوروبا التي بدأت تعاني شيخوخة اقتصادية تخيّب مواطنيها فكيف بالمهاجر.

وفي بلد صغير نسبياً مثل تونس لا يمكن الحكام، كما المواطنين، الاطمئنان إلى وتيرة بطيئة ومتكرّرة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، فالمطلوب ابتداع مؤسسات تحقّق تطويراً جريئاً في المجالات المذكورة، وهذا لم يحدث حتى مع تحدّيات ثورة الياسمين التي انتهت هذه الأيام بحكومة اتحاد وطني تكتفي برتق تمزّقات المجتمع وإعادة الأمور إلى مسراها البورقيبي الذي انقضى زمنه. ويسجّل هنا لحزب «النهضة» الإسلامي وعيه المتأخر بتونسيته، سواء كان هذا الوعي وطنياً حقاً أم نتيجة عجز عن تحطيم الحداثة المتمكّنة والعميقة في المجتمع. لقد تراجع الإسلام السياسي إلى حجمه نتيجة الانتخابات. وفي مقابل هذا التسجيل يؤخذ على «النهضة» انتقاله غير البريء إلى موقع المراقب للأحداث، فكأنّه ينتظر انهيار المجتمع الذي رفض حكمه ليعود إليه تائباً فيأخذ الحزب الإسلاموي تونس إلى ما يريده من تحطيم شخصية المجتمع وأخذ حطامها إلى عولمة إسلاموية متشدّدة، يتحوّل فيها المواطنون إلى جنود للخليفة وضحايا لقداسات يتلقّفها الشباب في شكل جرعات أيديولوجية تنوب عن حق العمل والحرية والانفتاح على الآخر المختلف.

ويبقى رغيف الخبز الشعار الأول للحراك التونسي كما للربيع العربي المهمل إلى حين.

أكثر من شهر من التظاهرات في تونس، وصل بعضها إلى إحراق ممتلكات عامة وخاصة. لم نصل بعد إلى مستوى الاحتجاج السلمي الحقيقي الذي يشكّل مع مبادرات أخرى للمجتمع المدني ما يمكن تسميته جماعات الضغط التي تراقب أداء القيادات الحكومية والأهلية وتدفعها نحو الأفضل. لقد حققت تظاهرات تونس قراراً بمساعدة بعض الفقراء وإعادة صوغ قانون المالية الجديد، لكنها تسبّبت بخسائر فادحة للسياحة، القطاع البارز في الاقتصاد. دروس لتونس وسائر بلاد الربيع العربي لا تجد من يتعلّم منها: اْنظر إلى الانتحار الجماعي في ليبيا وسورية والعراق.