حسين شبكشي

 يحب ويحبذ العرب إقناع أنفسهم دوماً بأنهم ضحية «المؤامرة العالمية» وأن كل مخططات «المشروع الصهيوني العظيم» و«القوى الإمبريالية الغاشمة» موجهة بكل قوة صوبهم، وهذا ولد لديهم شعوراً بالأهمية والاعتزاز بالنفس وغطى على الحال المزري الذي وصلت إليه المنطقة جراء سياسات وأحداث في معظمها كانت ذاتية الصنع.

لكن الطريف في الأمر أن هذه الحالة ليست حالة عربية حصرية، فهناك أمثلة كثيرة عن شعوب حول العالم لديهم نفس «الأعراض المرضية»، ولعل أهم هذه الأمثلة هو الذي حصل مع شبه القارة الهندية، فالهنود لديهم قناعة كبيرة وتامة بأنهم هم أيضاً كانوا ضحية «مخطط» إمبريالي كبير ومدروس، وأنهم تم «تقسيمهم» إلى دويلات شمال الهند وباكستان وبنغلاديش ونيبال وسريلاناكا ونزحوا فزعاً من الهند «الأم» تماماً، كما يقول أهل البلاد الشامية إنهم تم تقسيمهم إلى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين من الأم الكبيرة «الشام».
الهنود يقولون أيضاً إنه تم «زرع» كيان كشمير ليكون فتنة تماماً كما تم استحداث كيان إسرائيل، ولكن هناك فارقاً شاسعاً بين الذي فعله العرب والذي فعله الهنود كرد فعل حقيقي للتعامل مع هذا الوضع. لقد قرر الهنود أن النجاح سيكون أهم وأبلغ وأفضل «رد» مباشر وفعال لكل ذلك. ركزت الهند على مسألتين؛ التعليم والإنتاج. تطور الأداء التعليمي بشكل مذهل وباتت مخرجات التعليم الهندية مضرباً للأمثال في العالم، والدليل أن جامعتهم «الكلية الهندية للتقنية» هي إحدى أهم جامعات العالم وأن خريجيها هي وغيرها باتوا يقودون اليوم أهم الشركات والمؤسسات حول العالم من دون أي مبالغة، وليس هذا فحسب بل إن اقتصادييها يقودون أهم الشركات الاستثمارية، وفاز بعضهم بجوائز نوبل للاقتصاد، ونفس «التفوق» حصل لهم في المجال الأدبي والسينمائي، ففازوا بنوبل للآداب وأيضاً بجائزة «بوكر» وغيرهما من الجوائز الكبرى والمؤثرة.


اليوم الهند ماكينة إنتاج عظيم وبات اقتصادها أحد أكبر الاقتصادات حول العالم، وتمكنت الهند فعلاً من أن تكتفي ذاتياً، فهي فعلياً وليس بالإشارات ولا الشعارات تنتج كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، وباتت لها «ماركات» يشار إليها بالاعتمادية والجدارة والمصداقية. حتى على الصعيد السياسي قدمت الهند، وهي الديمقراطية الأكبر عالمياً، أهم مشروع للتسامح والتعايش في العصر الحديث، قطف ثمارها كل من مارتن لوثر كينغ زعيم الحركة التحريرية للأميركيين من أصول أفريقية وكذلك فعل نيلسون مانديلا الزعيم الأفريقي العظيم، وكان من الممكن أن يستفيد العرب منه في حياتهم ولكنهم فضلوا الاستماع إلى صوت التطرف.
ننظر كعرب إلى الهند بعنصرية وفوقية وتعالٍ بشكل ساذج ومريض وناقص، ولذلك أصابنا العمى والجهل ولم نستفد من إحدى أعظم التجارب البشرية الناجحة في العصر الحديث.
الهند تواصل نجاحاتها وتألقها وفرض نفسها كشريك عالمي محترم بالنجاح والعمل وليس بالسلاح، ولذلك تحول الهندي اليوم إلى المواطن «العالمي» الأول الذي يحظى بالقبول والاحترام في كل العالم إلا في العالم العربي مع الأسف.