فايز رشيد

بمنتهى الصدق، يمكن القول إن المتتبع للأوضاع العربية خلال العقدين الأخيرين، يخرج بانطباع أن القضية الفلسطينية أصبحت لا تحتل الأولوية؛ لأن المؤامرات التي خُططت للوطن العربي أغرقته في الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية، سواء في العلاقات البينية العربية، أو على مستوى البلد الواحد. 


بالتأكيد، هذا لم يكن صدفة وإنما أريد لهذه المنطقة برمّتها أن تغرق في صراعات جانبية لتنسى صراعها مع العدو الأساس، وهو العدو «الإسرائيلي». بالتالي لو طرحنا سؤالاً: هل ما تزال فلسطين قضية مركزية في العالم العربي؟ وهو سؤال يطرح في كل المراحل وله شقان، الأول: التناقض القائم بين الإعلان النظري حول مركزية القضية الفلسطينية، وهذا كان سائداً في الخمسينات والستينات وأواسط السبعينات، وبين الواقع الحالي نتيجة انشغال العربي بقضاياه. 
الثاني: استحالة نزع العدوانية والعنصرية عن دويلة «إسرائيل»، التي حتى الآن لم ترسم حدودها، وهو ما يعني استمرار أطماعها في الأرض العربية، وبالتالي فمن المستحيل أن يشعر مواطن عربي مطلقاً بالأمان تجاه هذه الدويلة، وهو ما يعزز من احتضانه للقضية الفلسطينية. 
بالمقابل، لقد لمست الجماهير العربية بوضوح الدور التخريبي «الإسرائيلي» في دولها، وهو ما حدا بها إلى إعادة استحضار مهمات هذه الدويلة في الوطن العربي، وأن «إسرائيل» لا تشكل خطراً على الفلسطينيين فحسب؛ بل تسعى إلى تمزيق الدولة العربية الواحدة (جنوب السودان، استفتاء الأكراد) والدور «الإسرائيلي» الواضح في دعم انفصالهما، إضافة إلى الدور «الإسرائيلي» في سوريا، وعمليات التخريب في لبنان وغيره، والمخططات الواضحة وضوح الشمس لتقسيم هذه البلدان إلى دويلات متنازعة. بالتالي شهدنا مراحل تراوحت بين الهبوط والصعود لشعار مركزية القضية الفلسطينية، بالنسبة للجماهير العربية.
على الصعيد «الإسرائيلي»، كان المهم هو إشغال العالم العربي بقضاياه، وهو ما خطط له ديفيد بن جوريون منذ عام 1948، هذا وفقاً لما كتبه إيلان بابيه في كتابه: «التطهير العرقي للفلسطينيين»، وأكدّته مصادر كثيرة أخرى. 
كل ذلك لتحقيق هدفين؛ الأول، حتى لا يقال مستقبلاً إن «إسرائيل» هي سبب إشكالات العالم العربي، والهدف الثاني هو إبعاد العرب عن القضية الفلسطينية. فقد لاحظ بن جوريون الحجم الكبير للمتطوعين العرب في الأربعينات في مجابهة عصابات الإرهاب اليهودية في فلسطين؛ ولذلك واستمراراً لهذه السياسة البنجوريونية، حوّلت هذه الدويلة شعارها الذي رفعته في البداية: «حل القضية الفلسطينية أولاً كمدخل إلى الحل مع الدول العربية»، إلى شعار: «السلام مع الدول العربية هو المدخل إلى الحل مع الفلسطينيين»، بالطبع ضمن التصورات والمقترحات «الإسرائيلية». 
هذا التحول ثبتته مؤتمرات الاحتلال الاستراتيجية، وهذا ما استطاع الاتفاق عليه مع الإدارة الأمريكية الحالية. ولذلك، من الملاحظ إن إدارة ترامب لم تطرح الكليشيه الأمريكي المتعارف عليه لحل الصراع بين الفلسطينيين و«إسرائيل»، وهي، ل«الدولتين»، بل تبنّت وجهة النظر «الإسرائيلية» بشكل كامل، وأضافت إليها الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، وتبني كل عناصر التسوية «الإسرائيلية».
باختصار، كل هذه المتغيرات السياسية، وبخاصة موضوع القدس، بما لها من مكانة خاصة وقدسية لدى كل العرب والمسلمين، كان القرار بمثابة الجرس الذي دق معلناً طبيعة الأخطار «الإسرائيلية» ليس على فلسطين والفلسطينيين فحسب؛ بل على عموم العرب والمسلمين.
الملفت للنظر، تلك التظاهرات الجماهيرية التي قامت في معظم العواصم والمدن العربية، اعتراضاً على قرار ترامب حول القدس، وانتصاراً لها وتأييداً للقضية الفلسطينية. ولو أن الذين يطرحون نهج المفاوضات كاستراتيجية لهم في التعامل مع العدو «الإسرائيلي»، تخلّوا عنه نهائياً واختاروا طريق المقاومة بكافة أشكالها ووسائلها، ومنها الكفاح المسلح، لخَلَق هذا احتضاناً أكبر من الجماهير العربية للقضية الفلسطينية. 
في كل الحالات لن يستطيع الأعداء انتزاع فلسطين من قلب كل عربي من المحيط إلى الخليج، فهي متأصلة في الوجدان العربي.