رياض نعسان آغا

خرج السوريون في مظاهرات تطالب بالحرية والكرامة، فإذا بهم بعد سنوات المحنة السورية الكبرى يواجهون ضياع الوطن كله، وتشردهم في أصقاع الأرض، وتحول سوريا إلى ساحات صراع دولية، وخسر النظام أولاً سيادته الشرعية حين أدخل الدب إلى كرمه، وباتت روسيا وإيران تتحكمان في مفاصل السيادة السورية، وحين وقعت الشاة الذبيحة أشهرت السكاكين حولها، وكثر الطامعون بلحمها! وعم الدمار ،وصارت الدماء شلالاً يتدفق من شرايين الأطفال والنساء، وفقدت سوريا مئات الآلاف من شبابها في ساحات حروب مجنونة، أجبرهم عليها غياب الحكمة والتمسك الأحمق بالسلطة المطلقة والاستبداد المقيت.

وكذلك فعل نيرون عندما أحرق روما وجلس في برجه يغني أشعار هوميروس مستمتعاً بمنظر بلاده وهي تحترق، ولكنه في النهاية قتل نفسه!

ويبدو الاحتلال الإيراني هو أخطر ما تعرضت له سوريا من احتلالات راهنة، ذاك أن الحلم الفارسي بالتوسع وجد الفرصة المناسبة لأن يتحقق بعد أن نال فرصة كبرى في احتلال العراق، وفي السيطرة على لبنان، وهو يتابع فرصة رابعة في اليمن، جادت عليه بها ثورات «الربيع العربي» التي أصبحت شتاء مدلهماً تقتلع العواصفُ فيه بيوتَ الناس وتلقيهم أشلاء في العراء.
وأما روسيا، فهي لا تملك مشروعاً أبعد من مصالح اقتصادية واستعادة لحضور في الساحة الدولية بعد أن ضعفت مكانتها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد جاء دخولها في سوريا إيذاناً بعودة الحرب الباردة التي تقع اليوم على صفيح ساخن يوشك أن يجعلها حرباً عالمية، إذا بقي الحمقى يتحكمون في مصير الشعوب.

وشعر الأميركان بخطر تنامي النفوذ الروسي والإيراني، وقد وعد ترامب شعبه في حملته الانتخابية باستعادة مكانة الولايات المتحدة التي هبطت إلى القاع في ولاية أوباما الذي قدم وعوداً وردية للعرب، وألقى خطابين مهمين في القاهرة وفي إسطنبول، ولكنه بذل كل جهده لتقوية إيران وتمكنيها في مشروعها النووي عبر الاتفاق النووي الذي وصفه أوباما بأنه اتفاق تاريخي وقال عنه الرئيس الإيراني «إنه اعتراف صريح بحق إيران في تخصيب اليورانيوم»! وأطلق الأميركان تصريحات متصاعدة ضد إيران، بينما هي تتابع مشروعها العدواني غير عابئة بتهديدات «الشيطان الأكبر» كما سماه الخميني.

لقد حرص العرب منذ أن قامت الثورة الإيرانية على إقامة علاقات حسن جوار مع إيران، وقدموا خطوات عملية لتمتين العلاقات معها، مدركين أن الجوار قدر التاريخ والجغرافيا، ولكن المشروع الفارسي استمر في التوسع، وفي تصدير الثورة الإيرانية وفرض عقائد مذهبية، ما جعل الود العربي يحترق في لهيب النزعات الاستبدادية الفارسية.

وقد زاد التدخل الإيراني في العراق ولبنان وسوريا واليمن والاعتداء المتكرر على السعودية من خطر الانفجار، ولو كانت إيران تضمر خيراً لجيرانها العرب أو تقبل حسن الجوار لأعادت الجزر الإماراتية الثلاث التي احتلها نظام الشاه إلى أصحابها لتبني معهم عهداً جديداً من السلام والطمأنينة لشعوب المنطقة كلها.

واليوم اتسع الخرق على الراقع، مع الفشل المتلاحق للمفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة في كل من سوريا واليمن وليبيا، وهذه المفاوضات هي البوابة الوحيدة التي يمكن لها أن توقف شلالات الدم العربي النازف.

وفي سوريا وصلت المفاوضات في جولتها الثامنة إلى طريق مسدود، ولا أتوقع أن يحدث أي اختراق ما دامت روسيا متمسكة بنظام الأسد وتريد إعادة إنتاجه، وقد أطلق الأميركان والأوروبيون خطتهم الأخيرة في باريس قبل أيام، ونرجو أن تأخذ مساراً جاداً ومنصفاً قبل أن ينعقد مؤتمر سوتشي، فبقاء النظام حاكماً بالقوة والعنف أمر محال، بعد أن دمر سوريا وجعلها أرضاً يباباً.

والمفجع أن تدويل القضية السورية جاء برغبة النظام حين لجأ إلى «حزب الله» وإلى إيران ثم إلى روسيا، واستقدم الميليشيات الطائفية من أصقاع الأرض، وشجع على ظهور التنظيمات المتطرفة ليعمّي على ثورة الشعب ويظهر الصراع على أنه مجرد تمرد إرهابي! وهذا جعل غالب العرب غائبين عن القيام بدور فاعل في الحل السياسي، مع أنهم يتحملون الكثير من تداعيات الانهيار في سوريا.

وعلى رغم كل القسوة التي يعاني منها السوريون، فإنهم يتمسكون ببيان جنيف 1، وبالقرار الدولي 2254 وبأسس مفاوضات جنيف التي تقضي بإنشاء هيئة حكم انتقالي تشارُكي مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب من أنصار النظام نفسه، وكذلك من التكنوقراط، وهذا وحده يكفي دليلاً على فهم المعارضة لمتقضيات الواقع، وتعبيراً عن حرصها على مؤسسات الدولة، وعلى سلامة واستقلال الوطن.