عبدالله مناع 

في الخامس من شهر ديسمبر الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. في احتفالية تلفزيونية هزلية.. عن (قراره) بـ(نقل السفارة الأمريكية) من العاصمة الإسرائيلية (تل أبيب).. إلى (القدس الشرقية) عاصمة الدولة الفلسطينية عند قيامها، ليقوم عليه العالم كله (رفضاً) لذلك (القرار) لا حباً في العرب أو المسلمين أو الفلسطينيين عموماً.. ولكن لأن اتفاقيات جنيف الأربع (لحماية الأراضي المحتلة) التي أقرتها دول العالم أجمع بعد الحرب العالمية الثانية: لا تسمح لـ(دولة الاحتلال) بـ(تغيير) هوية الأرض التي احتلتها أثناء الحرب.. أي من أرض عربية إلى أرض (يهودية).. كما هي حال (القدس الشرقية).. أما القدس الغربية -أو ما عرف بذلك.. فيما بعد-، والتي نشأت فيما بعد عام التقسيم 1947م.. كـ(امتداد) جغرافي لـ(القدس) الشرقية، فقد كان بإمكان الرئيس ترامب أن يعلن عن نقل سفارته إليها، ولن يعارضه أحد من العرب والمسلمين ودول العالم أجمع.. وسيكسبهم جميعاً إلى صفه وإلى جانب سياساته حتى الفج منها، ولكنه لم يفعل ذلك، لأنه أراد أن يكافئ (إسرائيل) أو (اليهود).. سداداً لـ(فواتير) سابقة.. أو فواتير (لاحقة) إذا امتد به العمر إلى دورة رئاسية ثانية في (البيت الأبيض) عام 2021م. أما الناخب الأمريكي.. الذي كان يدعي استمالته للحصول على صوته بهذا (القرار) إذا نجح في الانتخابات، فما كان يسعده نقل السفارة إلى (القدس)، أو يشقيه عدم نقلها..!!، ولذلك ثار عليه العالم كله.. ولم نر -في المقابل- أمريكيين يتظاهرون ابتهاجاً أمام (البيت الأبيض).. أو حتى في شوارع (واشنطن) أو ميادينها، ليعبروا عن سعادتهم وفرحتهم بقرار (الرئيس) في نقل سفارتهم من (تل أبيب) إلى القدس الشرقية..!؟.

وإذا كان (ترامب) قد نجح بـ(الفيتو) الأمريكي.. في تعطيل قرار مجلس الأمن بـ(رفض) قراره، فإنه لم يستطع أن يفعل ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة.. حيث تلقى (الصدمة) أو (اللطمة) التي لم تخطر له على بال.. رغم تهديدات السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة (نيكي هيلي) بـ(معاقبة) من يعارض قرار (الرئيس ترامب)، ومع ذلك فوجىء بـ(رفض) مائة وسبع وثلاثين دولة لـ(قراره).. بينما رحبت به سبع دول من أصفار الدول على مستوى العالم كـ(جواتيمالا) و(الهندوراس) و(توجو).. ومن نكراتها كـ (نكونيزيا) و(تاورو) و(جزر مارشال)..!!.

فإذا كان (الرفض) العربي والإسلامي لـ(قرار) ترامب، الذي تم الإعلان عنه بتلك الصورة السياسية الوادعة -في كل من: اجتماعات وزراء الخارجية العرب في (القاهرة).. فـ(اجتماعات) القمة الإسلامية في (إسطنبول).. فـ(اجتماعات) (نصرة القدس) بالأزهر الشريف في (القاهرة).. فـ(اجتماعات سداسية العاصمة الأردنية عَمًان)، التي اجتمع فيها ستة من وزراء الخارجية العرب هم: وزراء خارجية المملكة ومصر والمغرب والإمارات والأردن وفلسطين - لم يظهر له أي (صدى) على مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.. فمن باب أولى -كما يقولون- أن لا يظهر له أي (صدى) في (إسرائيل)، التي لا تملك أي علاقات مع الدول العربية والإسلامية باستثناء مصر والأردن، ولذلك لم يكن يهمها الرفض العربي والإسلامي.. لأنه لا توجد لديها علاقات تجارية أو اقتصادية أو سياحية تخشى عليها، ولكن الأمر اختلف تماماً مع (رفض) دول الاتحاد الأوروبي لـ(قرار) ترامب، الذي صعق (إسرائيل)، وأربك الولايات المتحدة الأمريكية.. باعتباره (الشريك) الديموقراطي، و(الحليف) العسكري الذي لا يستغنى عنه..!.

ولذلك فإن رفض الاتحاد الأوروبي لـ(قرار) ترامب.. هو الذي يمكن أن يقول عليه.. بـ(التجميد) أو (التراجع) عنه أو تأجيله إلى أن يتم حل القضية الفلسطينية وفق مبدأ (حل الدولتين)، الذي تؤمن وتعترف به دول الاتحاد الأوروبي قاطبة على حدود الخامس من يونيه من عام 1967م.. بل وأعلنت بعض دوله كـ(السويد) الاعتراف بـ(دولة فلسطين).. أما الرفض العربي والإسلامي وبصورته (الباهتة) هذه، فقد عبر عن أسفه لها رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.. الوزير الفلسطيني الذي شارك في مؤتمر الأزهر الشريف لـ(نصرة القدس): السيد وليد عَسًاف خير تعبير.. عندما قال في اجتماعات الـ (نصرة): (إن تغيير هوية مدينة القدس الشرقية تَطَلًب من الكيان الصهيوني سلسلة من الإجراءات القانونية ضد «المدينة».. من ضمنها اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية طاردة للعرب، وتشجيع إحلال «اليهود» محلهم والسيطرة على المسجد الأقصى وتقاسمه (مؤقتاً) زمانياً ومكانياً، وسن قوانين وفتاوى لصالح اليهود.. وتثبيت الرواية التاريخية الدينية المزورة، والمتناقضة مع الواقع والتاريخ)، وأنه في النهاية -كما دعا العَسّاف- لابد من (توفير الدعم السياسي والاقتصادي لتعزيز صمود المقدسيين.. لحين توفر ظروف إقليمية ودولية تفشل محاولات إسرائيل فرض هوية جديدة على المدينة المقدسة.. بمساعدة ترامب)!!.

لكن العظيم حقاً.. في هذه الأزمة التي خلفها قرار (ترامب) المتعجل وغير المبرر.. هو موقف صحافة العاصمة الأمريكية منها، فقد أشارت صحيفة (الواشنطن تايم) في معرض تعقيبها على تأجيل زيارة نائب الرئيس الأمريكي (مايك بنس) إلى منطقة الشرق الأوسط، والتي كان مقرراً لها أن تتم في أعقاب صدور قرار (ترامب) المثير للجدل.. والذي استهلته قائلة: بـ(إن الخطوة الأمريكية تجاه «القدس» تعتبر.. معارضة لجميع القوانين الدولية، وأن الحل في النزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي يجب أن يعود إلى المفاوضات، والتأكيد على حق قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها «القدس الشرقية») !! وهي تشير إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت القرار الأمريكي رفضاً قاطعاً، وعلقت اعترافها بـ»إسرائيل» كدولة، كما علقت التنسيق معها في الجانب الاقتصادي والأمني، وقد أشارت الصحيفة في ذات السياق إلى ما قاله خبراء وباحثون أمريكيون بـ(أن القرار الأمريكي.. أجهز على جميع مساعي التوصل إلى حل بسلام دائم وعادل للقضية، فيما أصبحت «اللجنة الرباعية» للتسوية في الشرق الأوسط، التي أنشأها الروس والأمريكان والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة غير نافعة وملزمة بالتالي للفلسطينيين)..!!.

إن مشكلة الرئيس ترامب مع (الصحافة).. هي أنه لا يقرؤها ولا يحترمها.. بل ويرى في (الصحفيين) جواسيساً وخونة.. وليسوا باحثين عن (الحقيقة) وخدامها.. معتمداً على تغريدات (تويتر) الصغيرة والمختصرة.. وربما التي يستوعبها عقله السبعيني، ولكن أيامه في البيت الأبيض.. ستعلمه ما هي الصحافة، وما أهميتها لـ(السياسي) بصفة عامة.. فضلاً من أن يكون هذا السياسي: رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية..!!.

على أي حال.. لن يتم نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس الشرقية).. إذا ظل الرئيس ترامب على قراره وعزمه.. خلال شهور قليلة أو كثيرة.. ولكنه يحتاج إلى عام أو عامين على الأقل.. إن لم يكن أكثر، وهو زمن طويل.. وكافٍ لأن يعيد (ترامب) النظر في قراره بـ (لتجميد) أو (الإلغاء) وليس (التأجيل)، ليريح الولايات المتحدة الأمريكية وشعبها.. من عداء ما يزيد عن المليار مسلم وعربي، لا يدري أحد: كيف.. ينفلت من (عقاله) -ذات يوم.. أو ذات شهر أو ذات عام-..!؟ على أن يعيد العرب في قمتهم القادمة في شهر مارس المقبل.. النظر في قراراتهم الباهتة التي أعلنوها في اجتماعاتهم.. الأربع الماضية، وبما يحمل الطرف الأمريكي على احترامها!!.