حسين شبكشي 

السياسة «الناجحة» و«الخالدة» هي التي ترتبط بهدف «عظيم»، هكذا يعلمنا التاريخ دوماً ولا يزال. الأساس كان دوماً تحقيق الهدف الأخلاقي النبيل؛ أهداف من نوعية «العدالة»، و«المساواة»، و«التنمية»... وهكذا، وليس في هدف «اقتصادي» بحت ينحصر في إطار تحقيق أقصى ربح ممكن، بغض النظر عن التبعات اللاحقة لذلك الهدف.


فالغرب على سبيل المثال، وتحديداً الولايات المتحدة، شهد تبايناً حاداً جداً في ذلك الأمر، فلنقارن على سبيل المثال بين السياسة «الريغانية» التي تمثل حقبة الرئيس الراحل رونالد ريغان، الذي حكم أميركا لفترتين متتاليتين في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي وبين سياسات الرئيس الأسبق جون كيندي الذي حكم لفترة واحدة غير مكتملة قطعت باغتياله في الستينات الميلادية.
لقد تحول المشهد والمعيار بشكل حاد جداً، وأصبح معدل النمو الاقتصادي المعيار الأساسي والأول والأكثر اعتماداً في تقييم السياسة الاقتصادية في معظم دول العالم بالمقارنة مع معيار توزيع الدخل، علماً بأن معيار معدل النمو الاقتصادي لا يميز على الإطلاق بين ذهاب ثمار التقدم والنمو والرخاء الاقتصادي إلى ثلة مختارة ومحدودة وضيقة ضئيلة تستأثر بالجاه والصيت والقوة والنفوذ والتأثير وليس توزيعها بشكل فيه عدالة وإنصاف وأمانة، وهو معيار لا يتم الحديث عنه بالقدر الكافي رغم أهمية ذلك، لأنه مع الأسف الشديد تم «الترويج» المستمر بأن من يطالب بذلك هو اشتراكي «سري» في الخفاء، وأن الاشتراكية هي إرث منبوذ عفّى عليه الزمان، وفقط مع أفول الاتحاد السوفياتي العتيد والتجارب المريرة التي كانت معه، متناسين أن هناك نماذج مبهرة وناجحة للغاية تحقق مفهوم حسن توزيع الدخل الاقتصادي بين الشعب، والأمثلة هي الدول الاسكندنافية مثل فنلندا، والنرويج، والدنمارك، والسويد، وآيسلندا، وكذلك سويسرا وكندا، وهناك نماذج أخرى مهم ذكرها مثل نيوزيلندا وسنغافورة، إذ لهما نماذج ناجحة ومميزة للغاية تحقق فيها توازن معقول ومنصف وأقرب للعدالة في توزيع الدخل إلى أكبر قدر من الناس داخل المجتمع وكسر احتكار «القلة» لمداخيل الدولة.
معيار الحياة الكريمة والإحساس بالعدل والمساواة الأساس الأخلاقي لأي قاعدة سياسية والهدف الاقتصادي الأسمى، وأي شيء لا تتحقق فيه هذه الغايات يعتبر ناقصاً وبه قصور جوهري وأساسي.
عندما استقلت الهند عن التاج البريطاني، وكان الفقر فيها مضرباً للأمثال، خرج غاندي بهدف إلى شعبه؛ أن الفقر سيكون موجوداً دوماً، ولكن سيكون لدينا اكتفاء ذاتي لكل السلع، ولن تكون هناك مجاعة بالهند، وقد حصل ما سعى له. 
أيضاً الآباء المؤسسون للدستور الأميركي الذين أطلقوا وثيقة الاستقلال بإعلانه المشهور، توجد فيه الجملة العبقرية الخالدة العظيمة «حق الأميركي للسعي إلى السعادة»، وهو حق مضمون دستورياً ومكفول حقوقياً.
إذا انصبت الدساتير والأنظمة والقوانين والأهداف نحو هدف عظيم ونبيل وأخلاقي مثل العدالة والمساواة فلا شيء سيقف أمام قوة الدفع من هذا النوع أبداً، لأن فيه نفعاً عاماً سيجمع على دعمه وتأييده أكبر قدر من الناس مهما اختلفت آراؤهم ومشاربهم وخلفياتهم. 
دروس التاريخ وعجلات الأيام لا تكذب ولا تتجمل، ومن يتمعن فيها وفي دراستها جيداً سيكون له أكبر قدر من الاستفادة.