طلال صالح بنان

منذ الأزل كانت الصراعات من أهم مظاهر تاريخ البشر، حتى على مستوى الأفراد. قَتْلُ قابيل لأخيه هابيل، كان أول مظاهر ميل الإنسان الغريزي للصراع، وسفك الدماء. هناك تيار في الفلسفة السياسية يرى أن طبيعة الإنسان بالفطرة شريرة، لدرجة أن البعض يستهجن السياسة بصورة عامة.. ويرى أنها سلوك يؤجج الصراع وليست نهجا لإدارة الصراع وضبطه، كون السياسة عندهم لا أخلاقية، وإن كانت إنسانية بطبيعتها!

الحروب تُعَد أعلى مستويات العنف الجماعي المنظم بين بني البشر. بل إنه في تطور النظرية السياسية، هناك اهتمام كبير بحركة الصراع في التاريخ، حيث تمثل الحرب ذروة تأجج الصراع، لتفسير تطور البشر الحضاري وتقدمهم الثقافي والتكنولوجي. بيد أن الحروب، من الناحية الواقعية، تجد تفسيرها ويتجلى إغراء اللجوء لخيارها.. وبالتبعية: تتفاعل حركتها العنيفة، كأحد أدوات السياسة الخارجية للدول، في 3 متغيرات مهمة، وردت في أدبيات علم السياسة المعاصرة، تشكل تاريخياً تفسيراً منطقياً لأسباب نشوب الحروب.

لا يمكن فصل قرار الحرب عن تقدير وتوجه النخب السياسية. الحرب كثيراً ما تكون لها خلفية آيديولوجية.. أو وضعية «سيكولوجية»، أو تعكس حالة من التوجه السائد لدى النخب السياسية لتقدير أو سوء تقدير اللجوء لخيار الحرب. بصفة عامة: يسهل اللجوء لخيار الحرب، كلما كانت النخب السياسية، تعتمد في شرعيتها على إمكاناتها الذاتية، مع توفر زخم شعبوي يمكن استغلاله لصنع أمجاد.. أو الترويج لأفكار آيديولوجية.. أو لتضخيم «الأنا» الوطنية. مثل هذه الشخصيات التاريخية «الكاريزماتية» يمكن أن تتسبب في شن الحروب، ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل وعلى المستوى الدولي. هتلر وموسيليني والجنرال توغو، كانوا مسؤولين شخصياً عن قيام الحرب الكونية الثانية.. وهزيمة دولهم، في النهاية.

ليس فقط النظام السياسي والنخبة، في عصر من العصور، تكون وراء شن الحروب، موقع الدولة، كثيراً ما يفرض نفسه، ويكون سبباً في عدم الاستقرار الدولي والإقليمي، الذي يعبر عن نفسه أحياناً، بصورة عنيفة، في اندلاع الحروب. كلما كانت الدولة جغرافيتها تحصرها في وضع إقليمي مغلق بعض الشيء.. أو تتوفر بها إمكانات تتجاوز مواردها وسوقها الداخلي.. أو تكون، إستراتيجياً في وضع دفاعي صعب، دفعها ذلك دفعاً تجاه خيار الحرب. إلى جانب المتغير الشخصي الأول، ينطبق متغير الجغرافيا السياسية، أيضاً، على دول المحور. إقليمياً: إسرائيل يفرض عليها متغير الجغرافيا السياسية، أن تكون عدوانية، لأنها غير مقبولة من جيرانها.. ولاغتصابها لأرض غيرها.. ولضيق رقعة الأرض التي تحتلها.. ولحاجة قوى عظمى لوجودها، بالإضافة إلى الأساطير التاريخية والدينية، التي تحيط بفكرة الدولة العبرية.

أحياناً، لا الدولة ولا النخبة السياسية ، تكون، أساساً، وراء قرار الحرب. النظامان الإقليمي والدولي، كثيراً ما يكونان وراء عدم الاستقرار، الذي يعبر عن نفسه بعنف في حالة الحرب النشطة. الدول عادة لا تلجأ لخيار الحرب، إلا إذا رأت وقدرت نخبها ، أن أهدافها في المجال الخارجي، يمكن أن تتحقق بصورة أكثر فاعلية وكفاءة عن طريق الحرب. الحرب تنشب عندما تزيد ثقة أحد أطرافها في إمكاناته.. ويستهين في تقديره بإمكانات خصمه. هذا السلوك الهجومي في الأساس، وربما العدائي، يتحكم فيه وضع النظام الدولي والإقليمي السائد، بصورة أساسية، وقت اتخاذ قرار الحرب.

دولياً: الحربان الكونيتان الأولى والثانية (١٩١٤ - ١٩١٩، ١٩٣٩ - ١٩٤٥) كانتا نتاج عدم استقرار نظام توازن القوى التقليدي. في المقابل: نظام توازن الرعب الحالي، يُعزى إليه «السلام الكوني» في نظام الأمم المتحدة... وإن كان هذا لم يمنع نشوب حروب محدودة، يكون أحد أطرافها قوة عظمى.. أو حروب إقليمية بين أعضاء دوليين وإقليميين، إلا أن تلك الحروب المحدودة، مستحيل أن تتحول لمواجهة كونية، وبالتالي: لن تؤثر على استقرار النظام الدولي الحالي، إستراتيجياً.

في كل الأحوال: قرار اللجوء للحرب لخدمة أهداف السياسة الخارجية لأي دولة هو في حد ذاته قرار خطير، لا يمكن أن يكون خضوعاً لإغراء الحرب، بقدر ما يجب اعتباره من قبيل: آخر الدواء الكي.. ولأغراض دفاعية مشروعة، بعد تقدير محكم للموقف الداخلي والدولي.. مع موازنة دقيقة لتكلفته وعائده. ثم إن تكلفة الحرب لا تحسب كمياً فقط، بمقدار الموارد الذي يجب حشدها، من عتاد وعدة وقوة بشرية وإمكانات لوجستية، بل لا بد من حساب تكلفة الحرب السياسية والأخلاقية والإنسانية، أيضاً.

الحرب خيار يصعب تفاديه، في بعض الأحيان، لكن يجب حساب تكلفتها بدقة متناهية. الحرب عندما تبدأ تمتلك حركة ذاتية من الصعب التحكم في حركتها.. والسيطرة على اتجاه مآلها. قد تقرر دولة الدخول في الحرب وبدئها، لكن الخروج منها وإنهاءها، ليس بالضرورة يخضع لإرادتها... دعك من توقع نتائجها.. أو انتظار جني عائدها. من الحصافة، عند التفكير في خيار الحرب، استنفاد كل الخيارات البديلة المتاحة قبل اتخاذ قرار الحرب.. وإذا كان لا مندوحة عن قرار الحرب، يكون التخطيط لحربٍ محدودةٍ وسريعة، فكلما اتسع نطاق الحرب.. وطال أمدها، زادت تعقيداتها.. وخرجت حركتها عن السيطرة، وفَدُحَت تكلفتها.