محمد علي فرحات

 قادة الديبلوماسية اللبنانية الراحلون سليم تقلا وفؤاد عمون وشارل مالك وفؤاد بطرس، لم تطل أعمارهم ليسمعوا زميلهم جبران باسيل يشتم رئيس البرلمان مرتين، بكلمات بينها وبين الديبلوماسية آلاف الأميال. تلك علامة من علامات انحطاط السياسة في لبنان، بفعل حروب أهلية مديدة بالوكالة عن دول في الإقليم وخارجه. وكان لا بد من تأليه القائد والتخويف الطائفي لشحن النفوس واستدراج شبان مساكين ليكونوا قاتلين أو مقتولين، في حروب مدفوعة الأجر سلفاً، للقادة بالطبع لا للمنقادين.

هذا الكلام للدفاع عن المستوى السياسي المطلوب في حده الأدنى على الأقل، وليس دفاعاً عن رئيس البرلمان الذي يمكن نقده مع حلفاء له أو خصوم من الرؤساء والزعماء والمتزعّمين.

ولسوء حظ حكّام لبنان كان الرئيس الألماني فرانك فالترشتاينماير شاهداً على تفلُّت الشارع اعتراضاً على تفلُّت الكلام، ولا بد أنه رأى من بعيد، على رغم العناية الأمنية بتنقُّلاته بين الرؤساء والقادة، الدخان الأسود يتصاعد من إحراق الدواليب في شوارع بيروت التي تعتبرها ألمانيا وسائر أوروبا العلامة الباقية من سلام يتحطّم في المشرق العربي، وأنها المنصّة المنفتحة على شرق وغرب والمؤهلة لـ «فرض» السلام على سورية بقواها الضائعة والمرتهنة نظاماً ومعارضة.

يرفض «التيار الوطني الحر» دفع رئيسه للاعتذار، مكتفياً بالأسف الذي صدر عنه عقب تسرُّب شتائمه في وسائط التواصل الاجتماعي، فيما يصرّ مناصرو رئيس البرلمان على الاعتذار ويصل بعضهم إلى طلب استقالة باسيل من وزارة الخارجية. وفيما تتراجع تظاهرات الشارع والاعتصامات تدخل مؤسسات الدولة، الحكومة والبرلمان، في عطلة إجبارية لا يتحمّلها وطن غارق في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ويكاد يختنق من رائحة النفايات ويدخل في الظلام بانقطاع التيار الكهربائي.

ومع شلل المؤسسات الدستورية اللبنانية، يصرّح وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرلمان بأن العطاءات التي قدّمتها بيروت للتنقيب عن الغاز في «الامتياز الرقم 9» تُعتبر استفزازاً للقدس المحتلة، وأن منطقة الامتياز هي ملك لإسرائيل «بكل المقاييس، ما يشكّل تحدّياً سافراً». ودعا الشركات للامتناع عن تقديم عروض للحكومة اللبنانية لكون ذلك «خطأ فادحاً يخالف جميع القواعد والبروتوكولات». وكان بنيامين نتانياهو سبق وزير حربه مصرّحاً في موسكو بـ «أن إيران تعمل على تحويل لبنان إلى موقع صاروخي عملاق لإطلاق صواريخ بشكل دقيق نحو إسرائيل، وهذا أمر لن نتسامح معه». وترافق كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي مع تصريح ناطق باسم جيشه يحذّر فيه لبنان من «محاولات إيران ترسيخ وجودها العسكري في البلاد. لأن إسرائيل مستعدّة لجميع السيناريوات».

هناك مراقبون يرون انزياحات سياسية وراء الشتائم وقطع الطرقات بالحرائق، ولا يستندون فقط إلى الخطاب الإسرائيلي المتوتر بقدر ما يقرأون تحللاً في الترابط بين الجماعات السياسية اللبنانية بعد استنفاد كل فريق المنافع التي كان يتوخاها من تحالفه مع الفريق الآخر. ويلتفت المراقبون إلى بيان «حزب الله» المنحاز إلى الرئيس نبيه بري في «قضية الشتائم»، بل ان «الحزب» لم يضمن بيانه ما يشير إلى وساطة مع حليفيه المتخاصمين لتجاوز الخلاف. وفي هذا ما قد يشير إلى شكوك بأن «الشتائم» لم تكن مقصودة لذاتها بقدر ما هي خطوة أولى في تراجع «التيار الوطني الحر» عن تحالفه مع «حزب الله»، وهو اختار البدء برئيس البرلمان لتفادي الاصطدام مع الحليف.

ويعزز المراقبون ظنونهم بالالتفات إلى التعقيدات المستجدّة في الجوار السوري، والحضور الأميركي عسكرياً وسياسياً هناك بعدما خيل للجميع أن سورية صارت ملعباً مفتوحاً لموسكو وجيشها، وأن في إمكان الرئيس الروسي ترويض المعارضة ورسم مسار لسورية جديدة في معزل عن الإرادة الأميركية، أو في الاستناد الواهم إلى انسحاب واشنطن من المشرق العربي وانصرافها إلى الشرق الأقصى، على ما كتب سياسيون وباحثون عرب وأوروبيون وأميركيون.

لبنان في عهدة الشتائم والدواليب المحترقة، لكنه حقاً في مرحلة إعادة نظر في التحالفات السياسية قبيل الانتخابات النيابية المهددة بدورها بالإلغاء أو بالتأجيل.