أحمد المرشد

أعود بعد فترة غياب الى المقال السياسي، وكان ابتعادي خارج عن إرادتي خاصة عندما كتبت عن «أطلال» أم كلثوم، فاكتشفت أن كثيرين يريدون متابعة مدى اعتماد هذه المطربة العظيمة على فكرة «الذكريات» في القصائد والأغاني التي غنتها، فاستغرق الموضوع عدة مقالات، وها أنا أعود اليوم الى عالمنا الذي لا نستطيع التخلي عنه، وهو عالم مليء بالمشاحنات والتجاذبات والقضايا الساخنة، وأقصد به عالم السياسة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وقد أرى اليوم وفقًا لمعطيات الواقع الذي نعيشه أنه ربما تمتد هذه الهجمة الإرهابية التي يتعرض لها العالم -دولاً وشعوبًا- للعام الحالي رغم أمنياتنا، وهو ما يستدعي سرعة القضاء على هذه الآفة المدمرة، لكن نحمد الله أن أواخر العام الماضي شهد نجاحات جزئية في القضاء على بعض مواقع تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، ولكن الخوف أن يمتد تأثير ونشاط هذا التنظيم المخرب الى مناطق أخرى حيث يعدها «بطنًا رخوًا». 

وطبيعي أن يكون البطن الرخو في أي بلد أو إقليم في هذا الجزء البعيد عن أعين الأمن أو ابتعد عنه الأمن لظروف طارئة، أو ابتعاد سلطة الدولة المركزية عنه مثلما حدث في مناطق كثيرة في العراق وسوريا واليمن وليبيا وبعض المواقع في قارة أفريقيا، ومن الخطأ ربط هذا التشبيه -البطن الرخو- بوجود بعض التنظيمات الإرهابية والداعشية في منطقة شمال سيناء المصرية؛ لأن السيادة المصرية على هذه البقعة من الأرض قوية وراسخة، اللهم سوى أن بعض التنظيمات استطاعت التسلل الى شمال سيناء والتمركز في المناطق الجبلية ووسط السكان بسبب أحداث الفوضى التي أعقبت تطورات 25 يناير 2011، بيد أن القوات المسلحة والشرطة المصرية تمكنتا من إعادة السيطرة على معظم الإقليم مع أن فلول داعش يسعون إلى الهرب إلى المناطق المصرية بعد نجاح القوات السورية والعراقية في السيطرة على معظم أراضي الدولة الإسلامية المزعومة. 

والمثير في مسألة داعش، أن الولايات المتحدة ومعها دول التحالف الخاصة بمواجهة هذا التنظيم في العراق أولاً ثم سوريا، تأخرت كثيرًا في التعامل مع مخاطر داعش، وتلكأت في دعم القوات المحلية المسؤولة عن مقاومة نشاط التنظيم الذي امتد الى مناطق كثيرة من العراق وسوريا منذ عام 2013 حتى أواسط 2017، لكن مع وطأة العمليات الإرهابية التي عانى منها الغرب والولايات المتحدة على مدى السنوات الماضية، اضطر التحالف الدولي الى التنسيق مع الجهات المحلية (العراق تحديدًا) لتكثيف الحرب ضد داعش والقضاء عليه كليا. غير أن المشكلة التي لا تزال باقية هي أفراد هذا التنظيم، فأين يذهبون؟ وهل ستقبلهم مجتمعاتهم ثانية عقب عودتهم منكسرين منهزمين؟ وما هي المناطق المحتمل اللجوء إليها؟ كلها تساؤلات تبحث عن إجابات، خاصة أن الدول الأوروبية سنت قوانين مشددة للتعامل مع العائدين، فمصيرهم المحاكمة والسجن مباشرة، في حين أن بعض الدول العربية تشهد سجالاً وتباينًا حتى يومنا الراهن حول الرغبة في استقبال العائدين وقبول توبتهم. ففي الوقت الذي تسعى بعض الحكومات الى قبول هؤلاء اتقاءً لشرورهم، فالشعوب نفسها ترفض عودتهم بعد أن تلوثت أيديهم بالدماء، ويعد الرافضون أن الأوطان لا تتحمل عودة إرهابي واحد إليها، فما هي الضمانات التي ستضعها الحكومة لتأمين الشعوب من شرور وإرهاب هؤلاء، خاصة بعد أن أصبحوا متعطشين للدماء، والحياة مع الإرهابيين ومجالستهم ومعايشة كل خرافات ما يسمي «دولة الخلافة الإسلامية»؟ ثم ما هي وسيلة حماية المجتمعات من هؤلاء إذا كانوا ذئابًا منفردة تنتظر تعليمات وتوجيهات القيادات حتى لو بعد حين؟ ويقيني أن الشعوب على صواب في رفضها قبول عودة الداعشيين من سوريا والعراق ومناطق الصراع، فالإرهابي مكانه السجن وليس سواه. 

ومع ما ذكرناه سلفًا من أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة استطاع بالتعاون مع السلطات المحلية في العراق تحديدًا السيطرة على معظم مناطق نفوذ الدولة الإسلامية (داعش)، إلا ان كل المعطيات الراهنة لا تقودنا الى القضاء كليا على الإرهاب الدولي، فهو يتخذ أشكالا متعددة، ويتمدد في فضاءات مفتوحة ومغلقة، وأبسط توصيف لهذا الإرهاب أنه يعمل كالفيروس، ومن الصعب القضاء عليه بسرعة، فهو يحتاج إلى بعض الوقت. هذا الكلام ليس مبالغة في الوصف في الحالة، وأمامنا كل دول العالم التي اتخذت إجراءات وتدابير مشددة للقضاء عليه لكنها لم تستطع حتى يومنا الراهن. فالقوة وحدها لم تفلح في تقويض العمليات الإرهابية، وكذلك فشلت محاولات بعض الحكومات تطويقه عبر تطبيق منطق التسعينات، وهو نظام المصالحة والعفو العام، فلا نستطيع القول إن كلا الأسلوبين نجحا تمامًا، سواء منفردين أو مجتمعين.

 الى هنا أجد نفسي مضطرًا الى طرح تساؤل جديد: «هل أصبح الإرهاب متلازمًا مع واقعنا الحالي؟ بمعنى أنه ربما يطول لبعض الوقت رغم كل الإمكانات المسخرة للقضاء عليه تمامًا». الإجابة ليست متشائمة مثل السؤال، حتى لا يتهمني البعض بعدم التفاؤل، فالمسألة بعيدة عن المشاعر والأحاسيس لارتباطها بواقع مؤلم نعيشه كل يوم في كل دول العالم. ومبعث عدم تشاؤمي هو الإرهاب، فلا ننكر أنه كان سببًا مباشرة في تعطيل مسيرة بعض الأوطان اقتصاديًا وسياسيًا وحتى اجتماعيًا -وهذه تحديدا تحتاج شرحًا-، لكن من الصعب للإرهابيين تبوأ مكان الدولة وسلطتها، ومثالنا هنا واضح تماما وصريح، وأقصد جماعة الإخوان المسلمين التي تولت الحكم لعام فقط في مصر وفشلت في إدارة البلاد، فكان مصير قياداتها السجن والهرب. وكذلك الحال في الجزائر في أواخر التسعينات من القرن الماضي، فالحرب استمرت لسنوات عديدة بين الدولة وبين جماعة «الإنقاذ»، ورغم خسائر الجزائريين الضخمة الاقتصادية والبشرية والاجتماعية، إلا أن الأمر استقام لسلطة الدولة رغم التجربة المريرة مع الإرهابيين السفاحين هناك وممارساتهم التي بلغت عنفًا يصل الى ذبح سكان قرى ومدن بأكملها، وعدم التورع عن حرق الجثث، حتى اكتشف الجزائريون بعد انتهاء تلك الحرب الشرسة مدى عنف أنصار الإسلام السياسي.

 وإذا كانت جماعة الإخوان قد تمكنت من التوغل في نفوس المصريين وخداعهم لتفوز بانتخابات برلمانية ورئاسية وتتولى إدارة الدولة في ظروف ما، فإن الدولة الجزائرية العميقة رفضت الخضوع للإسلام السياسي وتسليم البلاد لحكم الإسلاميين، وحافظت على الهوية المجتمعية للشعب الجزائري الذي يتذكر حتى يومنا هذا أهوال هؤلاء الإرهابيين. 

العنصر الآخر في تفاؤلي وعدم تشاؤمي مثل السؤال الذي طرحته، أن الإرهاب ليس سوى «حالة مرضية»، سيذهب الى حال سبيله، سواء اليوم أو غدًا، مهما تعددت تنظيماته ووسائله لإرهاب الشعوب والدول، فهو زائل مثل أي احتلال، والتجربة ماثلة أمامنا، هل بقي احتلال حتى يومنا هذا -سوى الاحتلال الصهيوني لفلسطين لظروف خارجة عن إرادة العرب في الوقت الراهن وغياب المعايير الدولية في التعامل مع تلك القضية الفلسطينية-؟ وحتى الاحتلال الصهيوني سينتهي يوما ما، وإسرائيل ومن يقف وراءها ويحميها يعلمان هذا جيدًا، وتكفي النصوص القرآنية التي تبشرنا بهذا، ولعل من يطالع سورة الشعراء ويقرأ تفسيرها بدقة يقتنع بما أقوله.

 ومثلما الاحتلال الى زوال، فإن الإرهاب بشكله الحالي الى زوال أيضًا؛ لأنه ضد طبيعة البشر وطبيعة المسلمين، وحتى لو استغل الإرهابيون عباءة الدين، فتوصيفهم هو أنهم إرهابيون ومتطرفون. ولذلك فالإرهاب محكوم عليه بالزوال؛ لأن التنظيمات الإرهابية مهما توافرت لها الإمكانات البشرية واللوجستية والتسليحية ووسائل اتصال ضخمة، لن تستطيع مجابهة قوى الشرطة والجيش في أي دولة من دول العالم، وقد رأينا أن تكثيف العمليات العسكرية للتحالف الدولي قد أدت ثمارها في تقليل الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش الذي ادعى يومًا ما أنه كاد يبتلع العراق وسوريا معًا. 

ونصل الى حقيقة مؤكدة في هذا المضمار، أن الإرهاب فشل في جميع مراحله في زعزعة ثقة الشعوب في قياداتها المركزية، كما فشل في نشر ثقافة التطرف والعنف والكراهية بين المواطنين، حتى لو دفعت بعض المجتمعات ثمنًا غاليًا من اقتصادها وأمنها فترة مــا، فكــل الدول التي عانت من الإرهاب لديهــا القــدرة على مقاومة هؤلاء الظلاميين.