عبدالله بشارة

أقدر أقول ان الحرب الهندية ـــ الباكستانية، التي انفجرت عام 1971، وجاءت بولادة جمهورية بنغلادش، هي من أبرز الأحداث في حياتي الدبلوماسية، كنت جديداً في عملي كمندوب دائم للكويت في الأمم المتحدة، جالساً على مقعدي في قاعة مجلس الأمن، أتابع مداولات المجلس في جو متوتر يهدد بانفجار الصراع بين الاتحاد السوفيتي، الذي احتضن الهند، وبين الولايات المتحدة التي تدافع عن باكستان، وكان المندوب الأميركي جورج بوش ــ المفتاح العالمي في تحرير الكويت ــ يواجه عصبية المندوب السوفيتي (جيكوب مالك) المتخشب بالأيديولوجيا، فكلما قدم بوش مشروعاً لوقف الحرب والانسحاب، رمى المندوب السوفيتي الفيتو المضاد، مع تبادلية الاتهامات، وكانت الحرب هدفها تحطيم الكيان الباكستاني الشرقي واستقلاله، وكان هناك صراع الكبار لحماية حلفاء المصالح، وانتابني شعور قلق على مصير الكويت مع واقع مجلس الأمن، الذي يلعب فيه الكبار، متجاهلين حق الشعوب في تقرير المصير، ومتعالين على القيم التي يدعو لها ميثاق الأمم المتحدة.


وظل هذا الهاجس يرافقني، وقد عززته حادثة مخفر الصامتة عام 1973، مع انكشاف واقع الأمم المتحدة بين الخطب والبلاغة المفعمة، مع سلطة غليظة لأصحاب الفيتو.
وعندما أصبحت الكويت عضواً في مجلس الأمن 1978 ــ 1979، وجدت أن لي رفاقاً يعيشون في هذا الجو السوداوي، كنا سبعة في مجموعة عدم الانحياز الأعضاء في مجلس الأمن، لكل منا لائحة هموم، كانت بوليفيا دولة جبلية فقيرة في جنوب أميركا اللاتينية، معزولة ليس لها منفذ بحري، تصرخ كل يوم بحثاً عن ممر يأخذها إلى ساحل المحيط الهادئ عبر أراضي البيرو، وتصطدم الدولتان، ولا هم للمندوب سوى هذا الممر، حيث يلعن الجغرافيا، ويلعن ضعف المناورة، وجامايكا دولة فقيرة في الكاريبي، كل همها سواح أميركا، فتراعي المشاعر وتحسب لذلك في كلماتها وتصويتها، والغابون دولة أفريقية تسير مع الاجماع الأفريقي، لكنها مسكونة خوفاً من انكشاف سياسي داخلي، وموريشيوس جزيرة في المحيط الهندي، عيونها على جنوب أفريقيا المرتبطة معها بعلاقات تجارية، والهند الطامحة ذات الأهداف الاستراتيجية البعيدة، ونيجيريا المضطربة دائماً.
في الحقيقة شكلنا داخل مجلس الامن شراكة المضطرين، يجمعنا التحسس من الجغرافيا، وضعف المناورة، مع التزامات اقليمية من الجامعة العربية علينا، ومن المنظمة الأفريقية على الأفارقة، لكن السر الأكبر في هذه الشراكة المتفاهمة أنها تعرف أسرار اللعبة في الأمم المتحدة، فالجانب السوفيتي يرتاح لمن لا يساهم في إحراجه من مجموعتنا، ولا ينضم للمجموعة الغربية بشكل دائم، وإنما يحافظ على شكل من الاستقلال، أما المجموعة الغربية، فإن حساباتها متباينة، لكن الأهم هو دور الولايات المتحدة، وهنا يلعب الرأي العام الأميركي دوراً مهماً في القرار الأميركي تجاه الدول.
نحن في الكويت لدينا انتخابات، وحملات انتخابية، ونواب يسقطون وآخرون ينجحون، مع صحافة حرة تقدم مسحاً انتخابياً عن فرص النواب على طريقة Election Polls، وبرامج انتخابية تسيطر عليها المواقف السياسية، هذه صورة نتحدث فيها إلى الرأي العام الأميركي عبر اتصالاتنا مع الاعلام ومع مجلس الشيوخ والنواب، فلنا حظوة ونتمتع بالبونص الديموقراطي الانتخابي، فنحن غير الذين يتحدث حكامهم عن أضرار الانفتاح، ويخافون من التجمعات المدنية، وليس لدينا عقدة المخابرات المخيفة، ويمكن القول ان نهجنا السياسي يرتاح له الرأي العام الأميركي.
يجب أن نتذكر أن قوة اسرائيل في أميركا هي عناصر كثيرة، لكن أبرزها «أنهم مثلنا»، كما يقول أصحاب القرار الأميركي، وهم في أميركا مثلنا يتابعون سلوكيات الحاكم الأحمق الطماع، ويتفهمون مخاوفنا من وحوش الغابة Predators، المتجاهلين لسيادة الجوار، والمحتقرين للحس الوطني لدول الجوار، ولا يترددون في اقتناص فرصة الانشغال العالمي في الصيد غير الشرعي.
ونعرف أن نظام الاستبداد والفهلوة الدكتاتورية لا يهتم بالقيم، فلا توقفه سوى وسائل الردع الفاعلة، التي تتوافر للدولة الصغيرة من تحالفات قائمة على المصالح، لكن تلعب قيم التحضر وسلوكيات الاستنارة دوراً مؤثراً.
ونستذكر الغزو، الذي خرج من مستبد جاهل لم يهضم وجود جار متسامح في ترتيباته السياسية داخلياً، ومتعقل في دبلوماسيته الخارجية، وانساني في امتداده الاقتصادي، وكانت هذه المؤهلات تبرر تصميم الأسرة العالمية على تحرير الكويت.
نحن الآن في وضع مغاير مع الجوار المضطرب، الذي يسعى الى بناء أساسيات تمنحه الاستقرار السياسي والاجتماعي، بعد أن قضت عليها مجموعة الجهلة من ضباط سرقوا السلطة عام 1958، ورغم كل ما قيل وسيقال، نظل نحمل معنا أجراس الحذر والتيقظ، فالذي فات علمنا الكثير، وأهم ما فيه من العبر ما كان الأصدقاء الأميركيون يرددونه علينا في لقاءاتنا أيام نيويورك، أن الذي يفقد وطنه يعيش على الرخيص من تراب الأرض.
ورغم كل شيء يظل البقاء السليم في دولة حرة أكبر هموم الدولة الصغيرة.