علي آل شرمة

من لا يتشرف بتراثه أو يسعى للتنصل منه يعاني من استلاب ثقافي وحضاري، ومن يعجز عن فهم الماضي واكتشاف إشراقاته هو عن استشراف مستقبله أكثر عجزا

تمسكا بتقاليدها وعاداتها، واعتزازا بتراثها الضارب في القدم، تشهد المملكة العربية السعودية اليوم انطلاق الدورة الـ32 للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»، الذي صار علامة فارقة في تاريخ بلادنا، تهدف من ورائه للتعريف بتاريخ الجزيرة العربية، وتعلن للعالم أجمع أنها مع سعيها الحثيث إلى تطوير وتحديث كافة أشكال الحياة، سياسيا، واقتصاديا واجتماعيا، فإنها تستصحب في ذات الوقت تراثها العظيم، وتتمسك بأصالتها الثقافية التي لا تنفك عنها، وتثبت أن مسايرة العالم والسعي نحو العصرنة لا يعنيان بأي حال من الأحوال التنكر للعادات والتقاليد وتراث الأجداد، الذي يمكن أن يكون أرضية صلبة ننطلق منها نحو آفاق أكثر رحابة وأشد إشراقا. 
المهرجان يُعنى في الأساس بتعريف العالم أجمع بما نملكه من حضارة عامرة وتاريخ عريق، لذلك يتم اختيار إحدى الدول بصورة سنوية لتكون ضيف شرف للمهرجان، ووقع الاختيار هذا العام على الهند. كما أن هناك جانبا آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو الاهتمام بتسليط الضوء على كافة مناطق المملكة، من خلال القرى التراثية التي تعرض موروث كل منطقة على حدة، وتوضح في جلاء التنوع الثقافي والحضاري الذي تتسم به بلادنا، وهو ما يتيح حتى للشباب السعودي والناشئة اكتشاف كم هي غنية بلادهم بهذا التراث، وكيف يعيش مواطنوها في وحدة وطنية فريدة من نوعها، رغم تنوع مشاربهم الثقافية، وهذه أكبر علامات الدول الحديثة. حيث ينصهر ذلك التباين الثقافي في بوتقة واحدة، عنوانها الأكبر هو المملكة العربية السعودية.


ومما يزيد من أهمية هذه المناسبة التي تستحق أن تسمى بالموسم الثقافي المتكامل أنها لا تعنى فقط بالتراث والتاريخ، بل إنها تعنى بالحاضر في أروع أشكاله، ويبدو هذا جليا في البرامج المصاحبة، حيث تعقد الندوات المختلفة، وتقام الفعاليات الموجهة لكافة أفراد الأسرة، وهو ما يؤكد أن الأصالة والمعاصرة لا تنفصلان عن بعضهما البعض، بل إن الأصل هو أن تسيرا جنبا إلى جنب. ومما حاز إعجاب الحاضرين وسرورهم خلال الدورات السابقة، ذلك التنوع في الطرح وأساليب العرض الشيقة التي تناسب كافة أفراد الأسرة من رجال ونساء وأطفال، وتركيز الجهات المختصة على تقديم المعلومة الصحيحة في قالب ترفيهي يجذب انتباه الفئات المستهدفة، ولا يؤدي إلى تنفيرهم عبر طرق جامدة مكررة. إضافة إلى تنظيم فعاليات أخرى ذات صلة، مثل مسرح الطفل، والعناية بتعزيز القيم التربوية والأخلاقية والتعليمية للأطفال، من خلال تقديم أفكار وألعاب ومصطلحات مستمدة من الموروث الشعبي الأصيل. إضافة إلى تحقيق فوائد اقتصادية وتجارية، تتمثل في تخصيص مساحات كافية للأسر المنتجة، تعرض فيها منتجاتها على الجمهور والرواد، وبذلك تصبح المناسبة فعالية متميزة تثري السياحة الداخلية، وتجذب المزيد من الزوار للمملكة.


ويمثّل الاهتمام الكبير للقيادة الحكيمة بهذه المناسبة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، بالمهرجان، وإشرافهما المباشر على كافة تفاصيله عنصرا رئيسيا يسهم في هذا النجاح الكبير، لاسيما بعد صدور القرار الصائب باستمرار المهرجان لثلاثة أسابيع بدلا عن أسبوعين، وبذلك تؤكد الدولة على أعلى مستوياتها اهتمامها الكبير بالجوانب الثقافية، وحرصها على إثراء التراث العربي الأصيل. وهذا الاهتمام المتعاظم من خادم الحرمين الشريفين يمثل رسالة هامة وواضحة، مفادها أن إنسان الجزيرة العربية متمسك بهويته، ومفاخر بماضيه، ويسعى إلى تقديمه للآخرين، ويحرص على دمجه في حاضره، وأن من لا يملك تاريخا مشرقا، فهو يفتقر إلى أبسط عناصر النهضة في المستقبل، ومن لا يتشرف بتراثه أو يسعى للتنصل منه يعاني من استلاب ثقافي وحضاري، وأن من يعجز عن فهم الماضي واكتشاف إشراقاته فهو عن استشراف مستقبله أكثر عجزا.