محمد السعيد إدريس

اجتمع وزراء الخارجية العرب بمقر جامعة الدول العربية الخميس قبل الماضي لاتخاذ موقف إجرائي للرد على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة ل «إسرائيل» ونقل عاصمة بلاده إليها، لكن يبدو أن هذا الاجتماع وموضوعه تجاوزته الأحداث، لأن الموضوع لم يعد مجرد قرار قابل للرفض أو القبول بخصوص القدس، لكنه يتجاوز القدس إلى ما هو أهم، وهو فلسطين ومستقبل الدولة الفلسطينية.
اهتم الوزراء العرب بثلاثة موضوعات تضمّنها بيانهم الصادر عقب انتهاء الاجتماع. الأول يخص قرار ترامب المتعلق بالقدس، وهنا لم يأت البيان بأي جديد. فالبيان تضمّن تجديد رفض قرار ترامب الذي رفضه العالم بالقرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر، الموضوع الثاني كان تجديد التمسك بخيار السلام والمبادرة العربية، وهذه المبادرة لم يعد لها وجود، لكن جديد بيان الوزراء هو «السعي لتأسيس آلية دولية متعددة الأطراف تحت مظلة الأمم المتحدة لرعاية عملية السلام، بما في ذلك الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لإعادة إطلاق عملية السلام ذات صدقية، ومحددة في إطار زمني»، وهذه في ذاتها خطوة مهمة تتضمن إشارة عربية لتجاوز دور الولايات المتحدة كراعٍ للسلام بعد أن افتقد صدقيته وحياديته.
أما الموضوع الثالث فيتعلق برفض القرار الأمريكي بتخفيض الحصة الأمريكية الداعمة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تتولى رعاية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في مجتمعات لجوئهم. فقد تضمّن البيان أن الوزراء العرب «رفضوا ودانوا محاولات إنهاء أو تقليص دور الأونروا من خلال الحملات «الإسرائيلية» الممنهجة ضدها».
يبدو أن الوزراء، إما أنهم لم يكونوا على علم بخلفيات القرار الأمريكي الذي قضى «بتقديم 60 مليون دولار للأونروا وحجب 65 مليون دولار أخرى»، أو أنهم كانوا على علم، ولكنهم تجنّبوا الخوض في جوهر القضية التي كانوا بصددها، أي ما تتعرض له القضية الفلسطينية من عدوان أمريكي، يستهدف تصفيتها لصالح المشروع «الإسرائيلي»، طبعاً ناهيك عن عدم تعرّض الوزراء لفرضية أن تقوم الدول العربية بملء فراغ الانسحاب الأمريكي، أي تقديم الأموال اللازمة لتشغيل الأونروا وزيادة كفاءتها بدلاً من عتاب الأمريكيين على تقصيرهم أو تراجعهم عن دعم هذه الوكالة التي ترعى اللاجئين الفلسطينيين، وتقوي من صمودهم أمام ضغوط وصعوبات حياة اللجوء القسري خارج الوطن المحتل. فالتحرك الأمريكي يتجه الآن نحو فرض مشروع ترامب للسلام الذي يحمل اسم «صفقة القرن» كأمر واقع، متجاوزاً كل الأطر السابقة التي كانت تحكم تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع مشروع «التسوية» الذي بدأ مع محادثات كامب ديفيد المصرية - «الإسرائيلية»، وأخذ يتمدد محكوماً برعاية أمريكية لخطة أو خيار «حل الدولتين» ومعالم اتفاق أوسلو بخصوص حدود الدولة الفلسطينية وقضية القدس وقضية حق العودة. وما جرى تسريبه من معلومات حول «صفقة القرن» يؤكد أنها تتضمن «انقلاباً» في مسار التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية، وبالذات من هذه القضايا الأساسية الثلاث: الحدود والقدس وحق العودة، والقرار الخاص بتخفيض الدعم الأمريكي للأونروا بنسبة تصل إلى 50%، جاء ضمن إجراءات فرض «صفقة القرن» على أساس أن خفض الدعم الأمريكي للأونروا يمهّد لإنهائها، وإنهاء قضية اللاجئين، حيث تتضمن «صفقة القرن»، وفق ما جرى تسريبه من معلومات، فرض خيار توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم وفق الفهم الأمريكي لهذه الصفقة، على أنها «حل إقليمي» وليس حلاً فلسطينياً- «إسرائيلياً» ما يعني أن هناك مسؤوليات ستفرض على كثير من الدول العربية لتحمّل تبعات «صفقة القرن»، ومن بينها توطين اللاجئين الفلسطينيين كحل لقضية حق العودة.
أما باقي تفاصيل تلك الصفقة فتخص الدولة الفلسطينية وحدودها، كما تخص العاصمة الفلسطينية المقترحة أمريكياً. فوفق مصادر دبلوماسية غربية، فإن فريقاً أمريكياً للسلام نقل خطة «الصفقة» إلى الجانب الفلسطيني عن طريق طرف ثالث، لم يحدد هويته، وأبلغه ما مضمونه أن «إسرائيل» بنت «مدينة قدس خاصة بها» من خلال تطوير مجموعة قرى، وبناء أحياء جديدة، وأنه يمكن للفلسطينيين فعل الشيء ذاته أي «بناء قدسهم»، وأنه من هنا «جاءت فكرة عاصمة الدولة الفلسطينية في بلدة أبو ديس بضواحي القدس».
كما تتضمن التسريبات أن الخطة تقترح حلاً انتقالياً يتمثّل في إقامة دولة فلسطينية على نحو نصف مساحة الضفة وكامل قطاع غزة، وبعض أحياء القدس وقراها التي يمكن أن تكون نواة بناء العاصمة الفلسطينية البديلة، على أن يتم ضم البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها مثل سلوان والشيخ جراح وجبل الزيتون ضمن «القدس «الإسرائيلية»» ويمكن ل «إسرائيل» أن تتنازل عن الأحياء المكتظة بالفلسطينيين لتكون ضمن «القدس الفلسطينية»، مثل بيت حنينا وشعفاط ومخيمها ورأس خميس وكفرعقب وغيرها، على أن تبقى الحدود والمستوطنات والأمن تحت السيطرة «الإسرائيلية»، لكن سيتم التفاوض عليها بعد إقامة «الدولة الفلسطينية».
أين وزراء الخارجية العرب من هذه التطورات وخاصة ما جرى تسريبه من رفض ترامب لأي مناقشة حول خطته من الجانب الفلسطيني، وأنها أي الخطة «للتطبيق وليست للتفاوض»، سؤال مهم يؤكد أن بيان الوزراء تجاوزته الأحداث، والمطلوب منهم إعداد موقف صريح لتجاوز مأزق مشروع ترامب.