حسن حنفي

إذا كانت نشأة النص الفلسفي الإسلامي يمكن تحديدها بالترجمة بنوعيها الحرفية والمعنوية، المباشرة عن اليونانية أو بتوسط السريانية ثم بالتعليق زيادة أو نقصاً ثم بالتلخيص أو الشرح من أجل هضم النص المنقول وتمثله، ثم العرض والتوجه من مستوى اللفظ والجملة إلى مستوى المعنى والقصد، ثم التأليف في المنقول والانتقال من مستوى المعنى والقصد إلى مستوى الأشياء ذاتها، فإن كتاب «القانون في الطب» لابن سينا يمثل هذا النوع من النص الفلسفي، التأليف في المنقول قبل التحول إلى النص الإبداعي الخالص الذي لا يحيل فيه النص إلا إلى ذاته، عقلًا وطبيعة، ذاتاً وموضوعاً.

والتأليف في المنقول، وهو في هذه الحالة الوافد، يجمع بين المنقول من الخارج والمنقول من الداخل، بين الوافد والموروث. فإذا غلب الوافد على الموروث يكون نوع التأليف تمثل الوافد وتنظير الموروث، وإن غلب الموروث على الوافد يكون النوع تنظير الموروث وتمثل الوافد. وإن تساوى الوافد والموروث، وهي حالة افتراضية، فالغلبة لأحدهما على الآخر دائماً، فإن ذلك يكون خطوة على طريق الإبداع الخالص عندما يختفي كلاهما لإفساح المجال لتحليل العقل الخالص.

وكتاب «القانون في الطب» لابن سينا من نوع تمثل الوافد وتنظير الموروث حيث تكون الغلبة فيه للأول على الثاني. وقد كان الشائع أنه إبداع ذاتي خالص لا يحيل إلا إلى ذاته، إلا أن تحليل المضمون يكشف غلبة الوافد على الموروث وذلك لكثرة الوافد الطبي وقلة الموروث فيه. ولهذا السبب غلب عليه التجميع من أجل تمثل الوافد مثل تجميع كتاب القياس في المنطق. فهو أقرب إلى النقل منه إلى الإبداع.

والوافد الغالب هو الوافد الشرقي على الوافد الغربي في المجلدات الثلاثة التي تضم الكتب الخمسة، أي الهند والصين وفارس، على اليونان والرومان، بعكس ما هو شائع من غلبة الوافد اليوناني.

وفي المجلد الأول يفوق الوافد الشرقي الوافد الغربي، وتتصدر الهند ثم الصين ثم العرب ثم الشام ثم فارس ثم أرمينيا ثم النبط ثم مصر ثم الخوزي واليمني والمكي. وتظهر صفة العرب في الصمغ العربي. وفي المجلد الثاني الذي يشمل أمراض الأعضاء، عضواً بعد آخر، يتصدر الوافد الغربي على الشرقي، ويقل الموروث الشرقي. وفيه تتصدر الهند على الصين ثم اليمني والعربي والأرمني. وفي المجلد الثالث الذي يشمل الكتابين الرابع عن الأمراض الجزئية التي لا تختص بعضو، والخامس عن الأدوية المركبة، يتصدر الوافد الشرقي من جديد على الوافد الغربي، الهند ثم الصين ثم فارس والكندي، ثم اليهود ثم الكرماني، ثم العربي، ثم أهل الإسكندرية والسوري وآسيا والأرمن.

وبالنسبة للوافد اليوناني يتقدم جالينوس ثم ديسقوريدس ثم بقراط ثم اليونان ثم الروم ثم أرسطو. فلا يأتي أرسطو إلا مؤخراً في المرتبة السادسة. ففي الكتاب الأول عن الأمور الكلية يتقدم جالينوس. وفي الكتاب الثاني عن «الأدوية المفردة» يتقدم ديسقوريدس. وجالينوس هو الوافد الأول في الطب أي في التشخيص. وديسقوريدس هو الوافد الأول في الأدوية أي في العلاج والصيدلة. ويقل جالينوس شيئاً فشيئاً مع التحول من النقل إلى الإبداع، ومن التراث إلى التجديد. ويكثر ديسقوريدس في الأدوية لأن النقل فيه أكثر من الإبداع. بل إن ظهور جالينوس يتفاوت أحياناً بين الكثرة والندرة، التواصل والانقطاع، في أول المجلد وفي آخره. ثم يتلوهما بقراط وروفس ثم أرسطو من حيث أسماء الأعلام. ومن حيث الثقافات يتقدم اليونان على الرومان.

وفي المجلد الثاني الذي يضم أمراض الأعضاء عضواً عضواً يتصدر جالينوس على بقراط. وتقل أسماء الأعلام نظراً لغياب أسماء الأدوية. ثم يذكر أركاغانيس وبولس وروفس. ولا يذكر أرسطو وأفلاطون وديسقوريدس إلا مرة واحدة.

وفي المجلد الثالث يتصدر أيضاً جالينوس وبقراط ثم صفة اليوناني الرومي. ثم يظهر أرسطو والإسكندر وأرسطوماخوس وبولس، ثم أرسطراطس وفيلاكسانس وقاطاجانس وفيلون الطرطوسي. كان الأطباء كثيرين، ولم يشتهر منهم إلا جالينوس وبقراط لأنهما يجمعان بين الطب والحكمة، في حين أن الآخرين مجرد أطباء ممارسين.

ويبدو الوافد اليوناني أحياناً غالباً في أسماء الأدوية وذلك لترجمته مبكراً عن طريق نصارى الشام ومعرفة مصطلحاته الطبية قبل معرفة الوافد الشرقي الهندي أو الصيني أو الفارسي. كما أن الجوار الجغرافي والثقافي مع الشام كان أكثر قرباً من الجوار الجغرافي والثقافي مع الهند والصين وفارس. كانت اللغة العربية لغة نصارى الشام. فقد كانوا عرباً لغة، ويوناناً ثقافة، ونصارى ديناً، ومسلمين حضارة وموقفاً، في مقابل الاختلاف اللغوي والثقافي بين العرب، يهوداً ونصارى ومسلمين من ناحية وبين أهل الهند والصين وفارس. كان العرب في تلك الأزمنة الغابرة أهل شعر وفصاحة بينما كان الهند أهل دين ورياضة، والصين أهل علم وتجارة، والفرس أهل سلوك وسياسة.