صلاح سالم

 أستأذن القارئ العزيز فى وقفة مطولة نوعا، تمتد لأسابيع عدة، عند الظاهرة الأصولية، ليس فقط فى الإسلام بل فى الشرائع الثلاث الإبراهيمية، كشفا عن بنيتها الاقصائية، القائمة على الاختزال والانتقائية، وتفكيكا لادعاءاتها بالشمول والكلية، الكامنة فى نزعتها اللاتاريخية.

نبدأ وقفتنا اليوم بتحليل النزعة الأخيرة المؤسسة للظاهرة، انطلاقا من فهم راسخ لدينا يقول إن الأفكار الكبرى «التأسيسية» تنتظم فى حركة سير التاريخ الإنساني مثل عربات قطار يتوالى مرورها على محطة «التأثير والفعالية»،بحيث تبلغ كل فكرة كبرى ذروة تحققها فى عصر ما دون غيره؛ فتستحيل مرجعا تقاس به وإليه حركة الفاعلين فى عالم هذا الزمان، قبل أن ترثها فكرة كبرى أخرى أقدر منها على حمل أعباء عصر جديد ارتقت فيه بنى التاريخ، وبلغت درجة أكبر من التعقيد، وهكذا. ومن ثم كانت الأفكار القادرة على صياغة العالم هى دائما الأكثر حداثة، وارتباطا بعصرها، وقدرة على تلبية متطلباته. ففى مرحلة تاريخية ما كان الدور الرئيسى لأفكار خرافية مثل السحر والحسد، وفى أخرى تالية ارتبط هذا الدور بأفكار من قبيل الأعراق النبيلة والبطولة الشخصية، وفى مرحلة أكثر نضجا تكاد تشغل العصر المحورى، احتكر الدين بسردياته الوجودية ومعارفه النقلية هذا الدور، فيما لعبت الأفكار الأخرى أدوارا هامشية. أما الحقبة الحديثة فشهدت بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ؛ سواء كانت فلسفية كالحرية والنزعة الإنسانية، أو سياسية من قبيل القومية والعلمانية والديمقراطية، أو علمية حيث صارت التكنولوجيا، كتطبيق للعلم الحديث، رافعة الحياة المعاصرة، بينما تحركت الأفكار المحفزة الأخرى إلى ظل التاريخ. وهكذا نجد أن الأفكار الكبرى جميعها قد لعبت دورها المحفز فى التاريخ، ولكن بأقدار مختلفة فى مراحل مختلفة، عبر تتابع محكوم ببنية تاريخية متطورة تنزع عموما إلى الارتقاء والتعقيد. ومن ثم يثور تساؤل حول مستقبل الفكرة المحفزة حال فقدت قدرتها على التحكم بعالمها؛ ذلك أن فشلها فى تحقيق السيادة لا يعنى موتها، بل فقط انزياحها من بؤرة التاريخ، ما يدفع بها غالبا إلى أحد اتجاهين:

الاتجاه الأول هو الإسهام (الجزئى) فى حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق التاريخ، فأحسنت التكيف مع عصرها، وأبدت تواضعا إزاء الفكرة المحفزة الجديدة، وهو الأمر الذى يساعد على تكامل وانسجام وسلاسة حركة التاريخ، كما يدعم الوحدة العميقة فى بنية الحضارة الإنسانية، فسيادة فكرة بعينها، وهى بالطبع الأكثر حداثة فى عصرها، إنما يفضى إلى تعميم ريادة الحضارة المنتجة لها، ومن ثم كانت هناك دوما حضارة سائدة، تتعدد داخلها الثقافات، وتتوزع بين ثقافات سائدة وأخرى متنحية، الفارق، بينها هو نفسه الفارق بين الرائد والتابع، بين المؤثر والمتأثر، بين الصانع والمستخدم.

أما الاتجاه الثانى فهو «مشاكسة» حركة التاريخ عندما تحاول الفكرة التأسيسية المتقادمة تحدى منطق العصر السائد بإعاقة الفكرة التأسيسية الجديدة، وقطع طريق سيرها الآمن. فعلى الرغم من أهمية الفكرة المتقادمة فى ذاتها، فإن محاولتها تصدر المشهد فى غير أوانها غالبا ما تولد طاقة سلبية ضد حركة عقارب الساعة، تعمل على إعاقة الفكرة الجديدة الأكثر قدرة وحداثة عن ممارسة دورها.

بالطبع ثمة فارق أساسى بين الدين والأفكار الوضعية؛ فالدين ظاهرة إنسانية كبرى تتوزع على مستويين: أولى يتمثل فى خبرة الاتصال العاطفي مع المبدأ الإلهي/ القدسي، حيث الخبرة الروحية خالدة ومن ثم متسامية على التاريخ. وثانوي يتم فيه تجسيد هذه الخبرة وتنظيمها، ما يجعل منها معرفة وتقاليد، تدور حول نصوص ونُقول، يتم استنطاقها لتبثنا أفكارا تقارب الحقيقة أو تلهمنا قواعد تقارب القانون. وعلى هذا المستوى يخضع الفكر الدينى للنزعة التاريخية. وعلى هذا كان ممكنا بل مطلوبا أن ينزاح الدين من المجال العام السياسي إلى المجال الخاص الفردى، متنازلا عن طموحه إلى تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على العلوم والمكتشفات، ولكن ذلك لم يحدث دائما بالقدر الكافى أو بالسلاسة المطلوبة، حيث مارس الدين هجوما متكررا على المجال العام، بتأثير ادعاءات ثقافية ومقولات نظرية تتأسس على إدراكات لا تاريخية، خصوصا فيما يتعلق بقضيتى السلطة والهوية والعلاقة مع الآخر، حيث وضع الأصوليون المسلمون، مثلا، مسمة زائفة تقول: «إن نقاء العقيدة الدينية إنما يقتضى نقاء الهوية الحضارية»، فكل حضارة ليست إلا الدين الذى تقوم عليه، فالحضارة الآسيوية مثلا هى الهندوسية والبوذية، أما الحضارة الغربية فهى المسيحية فقط، ومن ثم فلا قيمة هنا لعصور كالنهضة والتنوير، التى مثلت نوعا من القطيعة التاريخية مع الموروث المسيحى الأرثوذكسي، ولا اكتراث بالنقد الرفيع للكتاب المقدس، ولا قيمة لعمل الفلاسفة الكبار، فرغم كل ما جرى عبر القرون الخمسة الماضية يبقى الغرب هو المسيحية، وأوروبا هى الصليب، وهنا تصير الحضارة، كالدين، مسألة تقع فى صميم الخصوصية الثقافية، وليست إرثا عاما للبشرية، الأمر الذى يقود إلى اعتبار كل تفاعل ثقافى بين الحضارة العربية وغيرها بمثابة تشويه للإسلام، وانتقاص من خيرية المسلمين. هذه المسلمة تتأسس على مقدمة خاصة بها وتقود فى الوقت ذاته إلى نتيجة مميزة لها: المقدمة هى عدم الثقة بالعقل الإنسانى وقدرته على صنع تاريخه، ومن ثم ضرورة الارتهان الكامل للنص الدينى/ النقل/ الوحى، حيث التوجيه الإلهى الكامل لحركة التاريخ والقصور شبه الكامل للعقل الإنسانى. وأما النتيجة فهى ضرورة الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظا على نقاء الهوية (الإسلامية)، الأمر الذى يخلق انشغالا عبثيا بهذه القضية بديلا عن الانفتاح على العالم، كما يغذى النزعة العدوانية إزاء الغير بديلا عن التعاطى الإيجابي معه، والرغبة فى التعلم منه. بل يصل الأمر أحيانا إلى تحويل الفهم الخاص الفرعى/ الفقهى/ المذهبى للدين إلى (إطار ثقافى) مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها، فلا يمتنع التفاعل مع الآخر الغربى حرصا على نقاء الدين، بل أيضا مع مختلف التيارات الفكرية التى تزخر بها مجتمعاتنا العربية حرصا على نقاء التدين، حيث يصبح الليبراليون غريبى الأطوار، والعلمانيون مجرد زنادقة وربما ملحدين، أما اليساريون، خصوصا الشيوعيين، فملاحدة ماديون على وجه اليقين، ناهيك طبعا عن الشيعة الذين هم فى الأقل منافقون وفى الأكثر خارجون على الملة فى نظر الأرثوذكسية السنية، المؤسسة قطعا، عبر بعض التأويلات المنحرفة، للسلفية الجهادية.