صالح زياد

دلالة الهجوم على النهضويين، هي رغبة في الاستئثار بكامل الحضور الوطني والديني، وتبرير للانحراف بخطاب النهضة إلى أسئلة مختلفة وفكر مختلف

على عكس الإعجاب بأوروبا الذي تألق في الإحساس به دواعي النهضة ودعواتها لدى شيوخ النهضة العربية الإسلامية في القرن التاسع عشر أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، على عكس ذلك الإعجاب كان تسفيه الحضارة الغربية أحد الملامح في الفكر الذي تأول لذاته دعاوى دينية سياسية: الفكر الذي غدت «جماعة الإخوان المسلمين» ومن خرج من معطفها أوضح أمثلته.
وهو تسفيه للحضارة الغربية كلها؛ فهي -مثلا- في رسائل حسن البنا: «طريق الشهوات والزخارف» و«زينة وبهرج» و«لذائذ وترف» و«تحلل وإباحية»، وعلينا أن «نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات».
وقد نجد في مؤلفات متخصصة لغرض التسفيه الكامل للغرب، استثناء العلم، كما عند محمد قطب وأبي الحسن الندوي وغيرهما؛ لكن هذا الاستثناء مسبَّبٌ عن نظرة تعميمية تفصل بين نشأة العلم وتطوره والتربة التي تؤهل لذلك؛ فهو –فيما نقرأ لدى محمد قطب- «ليس من نتاج الجاهلية الحديثة... إنما هو نتاج بشري ضارب بجذوره في التاريخ، ظلت تسلمه أمة إلى أمة أخرى حتى وقع اليوم في يد أوروبا». 
وتاريخ العلم ليس بهذه البساطة، فلماذا لم يقع في يد العرب والمسلمين بدلاً عن أوروبا؟! ولماذا ينتقل من أمة إلى أخرى؟! هنا تكون الإشكالية الحضارية التي لا تنفصل فيها أسباب العلم وعلاقاته عن غيرها من أسباب التقدم الحضاري والمدني، بحيث تتجاوب القفزة في ميدان التقنية والأدوات، مع قفزة مناسبة في العلم النظري، وقفزة في حرية الفكر والتعبير والذاتية والتنظيم الاجتماعي... إلخ.
هكذا يصبح التسفيه لأوروبا والغرب، من هذه الوجهة، وجهاً من وجوه التعمية والحجب على أسباب التقدم؛ فهناك تسفيه نقدي «ما بعد حداثي» للحضارة الغربية، نجده عند مدرسة فرانكفورت النقدية، لاسيما رائداها أدورنو وهوركهايمر، إضافة إلى أمثال هابرماس، وهو النقد نفسه الذي تصاعد إلى مقولات تفكيكية للمركزية الأوروبية، في البنيوية وما بعدها، وإلى التأسيس لوجهة ما بعد الكولونيالية، خصوصا لدى أمثال فرانز فانون وإدورد سعيد وهومي بابا.
لكن موضوع هذا النقد ومنهجيته في مسار مختلف عما نحن الآن بصدده من نقد له وجهة استبدادية وكهنوتية وماضوية وغير عقلانية. فالنقد ما بعد الحداثي للحضارة الأوروبية هو استئناف للحداثة، إذ هي «مشروع لم يكتمل» بحسب عبارة هابرماس، وتصحيح عقلاني وأخلاقي لها. ولذلك يتضمن تزكية للحضارة نفسها التي ينتقدها، إذ لم يتهيأ نقده لها إلا من داخلها وبما أمدته من إمكانيات.
وقد نقول إن غرض التسفيه للغرب يصب في التزكية للإسلام والدعوة إليه لا سيما وأن الحضور الغربي أصبح يفرض نفسه في الوجود العربي الإسلامي بموجب الحاجة إلى علمه ودوائه وآلاته وفنونه وبضائعه، ويبرق في العيون بغناه ومدنيته وعمرانه وحرياته وحقوقه وأنظمته. لكن هذا الغرض ظُلْم للإسلام، ونسبة للتخلف في واقع المسلمين إليه، من حيث يراد العكس، فكما لا تصح نسبة العلم والتقدم الغربي إلى الدين المسيحي، لا تصح نسبة تخلف المسلمين إلى الإسلام.
وبالطبع فإن ما نصفه بالتقدم الغربي ينطوي على مشكلات أخلاقية وروحية وإنسانية جمّة، وتشخيصها والبحث عن علاجها هو مهمة نقدية لم تتوقف عند حد، ولا يقبل ذلك التقدم حقيقته بالانفصال عنها.
ولذلك التقدم –أيضاً- مركزيته الأوروبية، أعني مركزية الرجل الأبيض المسيحي الأوروبي، المركزية التي تحيل العالم إلى هامش على أوروبا وتاريخها وثقافتها. ومن عجب أن تفكيك هذه المركزية برؤية نظرية عقلانية وإنسانية، لم يأت من خارج الحداثة الأوروبية بل من داخلها.
ولا يستقل التسفيه للحضارة الغربية، في ذلك الفكر عن التبشير بزوالها. إنها، لدى حسن البنا «تفلس الآن وتندحر، وتندك أصولها وقواعدها». وقد تضعضع أساس المدنية الأوروبية، فيما قال أبوالحسن الندوي «ولم يزل بناؤه متزعزعاً، ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها، فلم تصلح شجرتها ولم تطب ثمرتها». وهو المنطق نفسه الذي يتكرر لدى سيد قطب في قوله: «افتضحت الجاهلية، وبدت سوأتها للناس، واشتد تذمر الناس منها».
ويمكن أن ندرج هذا المنطق في سلك التعبير عن أُمنية ورغبة، ويمكن أن نضيف أنه آلية كل خطاب إيديولوجي في إضفاء الثقة على كسبه لرهان المستقبل وتوهين الشكوك التي تنال من هذه الثقة. لكن السؤال سيتولد تعجبياً تجاه هذا المنطق: لماذا الإصرار على زوال الحضارة الغربية ودكها؟! ألا يمكن النهوض بحضارة عربية إسلامية إلى جوار الغربية؟!
ومن جديد يدلل هذا المنطق على التعمية على الواقع، التعمية التي تباعد، هنا، بينه وبين اكتشاف الفعل النقدي العقلاني الذي تقتضيه بالضرورة أسئلة التقدم. ذلك أن الذي يقي التقدم الغربي من الانفجار داخلياً هو منطق التصحيح المستمر، وهو منطق حواري، أي اختلافي، وهذه سمة مؤسَّسية فيه، أي تولِّدها طبيعته المؤسساتية وتحميها. وهذا هو ما يفتقده الخطاب الذي يبشر بزوال الحضارة الغربية، ومعاناته على الدوام من التذبذب والتصدع والفرقة.
ويلفتنا الهجوم الذي قاده أبرز مثقفي جماعة الإخوان، والجماعات المتناسلة منها، على مشايخ النهضة الأول، وخصوصاً الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. فقد عاد هذا الخطاب الذي ابتدأ مساقه بالتتلمذ على أولئك النخبة، بالهجوم والتخوين والزراية والطعن عليهم.
من فصل طويل بعنوان «الأفغاني ومحمد عبده» في كتاب محمد محمد حسين «نحن والحضارة الغربية» نقرأ أن محمد عبده أنشأ محفلاً ماسونياً تابعاً للشرق الفرنسي، ويتحدث عن صداقته للورد كرومر، ويورد أنه قال: «إني أشك في أن صديقي محمد عبده كان لا أدْرِيّاً»، وأن «مجلس الأفغاني كان يضم خليطاً من المسلمين والنصارى واليهود»، و«كان ينزل في حارة اليهود، وألَّف جمعية سرية أعضاؤها من شباب اليهود»، و«كان ينتسب حين دخل مصر إلى المحفل الماسوني»… إلخ.
ومن ينظر في مثل هذه الاتهامات يجد أنها مرسلة بلا دليل، أو أنها تأويل لوقائع في زمن تاريخي بمنطق زمن آخر. فما جريمة أن يكون له أصدقاء من اليهود؟! أو أن مجلسه يجمع مختلفين في الدين؟! وهل كان معنى الماسونية في ذهن الشيخ مماثلاً لها في ذهن من يهاجمه بسببها في فترة تالية؟!.
لقد انضم الشيخ جمال الدين الأفغاني فعلاً إلى المحفل الماسوني، على أمل –فيما يعلل العقاد- في مناصرة الشرقيين والأوروبيين لدعوته العامة، تصديقاً لما شاع عن مزاعم الماسون أنهم ينتصرون للحرية الإنسانية.
وليت من اقترف التخوين للأفغاني، وهو أحد كوادر الإخوان في مصر، قرأ مقالات لسيد قطب، في صحيفة «التاج المصري» التي كانت تصدر في مصر في أربعينات القرن الماضي محسوبة على الماسونية، منها مقال بتاريخ 23 أبريل 1943، يقول فيه:
«عرفت أن الماسونية ليست مبدأ أو مذهباً يعتنق، وإنما هي الرجولة والإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى عمل الخير دون وازع إلا وازع من وجدانه وضميره. هي روح عالية تسمو بالإنسان».
لكن المهم هنا، أن دلالة الهجوم على النهضويين، هي رغبة في الاستئثار بكامل الحضور الوطني والديني، وتبرير للانحراف بخطاب النهضة إلى أسئلة مختلفة وفكر مختلف. وهي رغبة لم تصنع هذا الهجوم وحَسْب، بل صنعت التيار الفكري ذاته وعلاقات تصارعه على أكثر من جبهة.