محمد علي فرحات

 عدا محترفي التعليق السياسي لم يبق من نخبة المعارضة السورية من يعلي صوته إلا القليل، وهذا القليل الوسطي لا ينتمي إلى المبالغين في رفع السقف ممن صدمهم الواقع فأحسوا بالخيبة وانكفأوا. لا يحق لأحد إدانة هؤلاء فقد كان يشاركهم في مؤتمرات المعارضة ممثلون لأكثر من خمسين دولة «صديقة للشعب السوري» تريد لثورته النجاح وللنظام السقوط. والآن تتسرب معلومات أوروبية عن اتجاه لاختزال عناوين مؤتمر جنيف ليبقى منها عنوانان: دستور جديد وتحضير لانتخابات. أما الحكم الانتقالي وسواه فتبقى ملك الكبار الذين يتحكّمون بالحروب السورية ويتبادلون الضغوط بواسطة مسلحين محليين ووافدين محمّلين بأيديولوجيات عابرة للحدود.

معظم النخبة المعارضة المنكفئة يلجأ إلى الصمت ولا يقوى على اعتذار عن خطابات نارية كانت تذكّر بالثورة الدائمة بحسب ليون تروتسكي وبوعود القبضة الحديد التي نفّذها ستالين مطهّراً الثورة بقتل قيادات لم تستطع الوقوف عند خط الدولة الأحمر. لم ينتبه أهل النخبة المعارضة لغياب أي حراك مدني في سورية عدا حراك حمص اليتيم، ولم يسمحوا لعيونهم برؤية الحراك الريفي وقد طغى على الثورة منذ بداياتها وسلّمها للوجهاء ورؤساء العشائر ورجال الدين، أولئك الذين احترفوا تمثيل القوى الإقليمية والدولية مقابل المال والسلطة.

مرة ثانية لا يحق لأحد إدانة النخبة السورية المعارضة، لكن الدرس مطلوب لمجتمعات شرقية تتكرر أخطاؤها ومعها مزيد من القتل والخراب المجانيين: مجتمع المدينة السوري قتلته الناصرية الوحدوية بين عامي 1958 و1963، لينهض من جديد عام 1974 ثم نشهد مقتلته بأيدي الحراك الريفي المسلّح المسمّى ثورة على رغم افتقاده غالبية اجتماعية واعية لمكوناتها، ولا يدري أحد متى تكون الولادة الجديدة لمجتمع المدينة السوري.

الحراك السوري سرعان ما جذب قوى إقليمية وعالمية ذات مصلحة، فانتقل الصراع إلى هذه القوى بالذات، من هنا الأمل بحلّ يستند إلى اتفاق القوى غير السورية ويُفرض على السوريين، فنشهد كياناً سياسياً جديداً ونبدأ بالتعوّد على التعامل معه.

سيحتاج الأمر وقتاً يطول أو يقصر، بحسب التفاهمات الأميركية – الروسية التي تبدو متعثّرة، وفي الانتظار فصول من مأساة السوريين أكثر تعقيداً وإيلاماً. أنظر إلى عفرين ومنطقتها التي كانت تعيش بسلام بعيداً من النظام والمعارضة ومسلحي الأحزاب الكردية المتطرفة. كان في الإمكان بقاؤها سالمة في انتظار اكتمال الحل السوري، لكن حساسية رجب طيب أردوغان المبالغ بها تجاه أي اجتماع كردي حملته على تهديدها والتخطيط لاجتياحها مستنداً إلى موافقة حليفيه الروسي والإيراني. وها أن عفرين يحترق زيتونها بنيران «غصن الزيتون»، وقد تزيد حدة المأساة مع دخول ميليشيات تابعة لنظام دمشق محملة بأحقاد ضد أردوغان.

في مشكلة عفرين تقاطعات تركية - أميركية - روسية – إيرانية، قد تصل إلى خيط للحل، لكن اشتعال الهجوم الروسي - الأسدي على غوطة دمشق يعقّد ملفّي المنطقتين المنكوبتين، والحال أن حرب الغوطة التي يشبّهها الروس بحرب حلب ستطول، على رغم ما يتسرّب عن مفاوضات ترعاها موسكو بين مسلحي الغوطة والنظام.

ودائماً الصدارة للدولي على المحلي في المأساة السورية. ثمة من يربط بين قرار يتخذه مجلس الأمن بالإجماع يقضي بوقف القتال لمدة شهر، يصار خلاله إلى نقل مسلحين من الغوطة وتراجع الآخرين إلى مسافة كافية لحماية دمشق من قذائفهم، وخلال الشهر نفسه يتم ترحيل المسلحين الأكراد من غير أهل عفرين برعاية روسية، بما يرضي أردوغان ويسمح له بخطاب انتصار أمام مؤيديه الذين يصدقونه دائماً.

أين هي النخبة السورية المعارضة؟ لا مكان لها اليوم، والأدهى أن لا بديل يحل محلها. إن سورية ساحة لحروب الآخرين فعلاً لا قولاً.