عبدالحق الصنايبي

هذا التأصيل تُفسره المواقف المتذبذبة لأميركا من إيران، والتفاهمات التي تعقدها معها «تحت الطاولة»، ويُظهر بجلاء الرغبة في إدامة الصراع في المنطقة من أجل الاستمرار في ابتزاز دول الخليج لتحقيق روزنامة مصالح على حساب التوتر السعودي - الإيراني..

إن محاولة فهم التعاطي الأميركي مع منطقة الخليج العربي، يفرض على الباحث في الدراسات الاستراتيجية تفادي التحليلات السطحية والاستنتاجات الظاهرة، واعتماد الرؤية البعيدة المدى وفق آليات ووسائل تضبطها الأصول العامة التي تتحكم في الرسم والضبط الاستراتيجيين. وهنا يُعرف هاري يارغر الاستراتيجية على أنها «عملية فكرية منضبطة، ذات مخرجات وغايات وطرائق ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس وفي ظروف غموض البيئة الاستراتيجية». (الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي ص 26).

السعودية: مركز ثقل العالم الإسلامي

تبقى المملكة العربية السعودية من الأنظمة السياسية القوية بالمنطقة لاعتبارات دينية واقتصادية وتاريخية، تجعل منها حاملة لواء الدفاع عن دول الخليج من التهديدات المستمرة التي تهدف إلى إضعافها أو إخضاعها، خصوصاً تلك التي تعبر عن أطماعها بشكل واضح كإيران من خلال محاولة خلقها لكيانات تابعة سياسياً لها تقودها وفق نظرتها الاستراتيجية وحساباتها السياسية.

إيران: سياسة توسعية وهيمنة ثابتة

لم يعد يخفى على أحد الأطماع التوسعية لإيران بالمنطقة، وهي أطماع ذات طابع قومي تهدف، بالأساس، «التمكين» للقومية الفارسية، مع تغليفها بغلاف شرعي من خلال البناءات السياسية والفقهية المرتبطة بـ»بدعة» ولاية الفقيه واستعمالها كحصان طروادة للتمكين لمشروعها الفارسي وإعادة إحياء حلم إسماعيل باشا الصفوي بالمنطقة.

هذا الحلم الصفوي، يصطدم، وجوديّاً، بالصخرة السعودية، التي نجحت في وقف الزحف الصفوي سياسياً وإعلامياً وعسكرياً (مساندة الشرعية في اليمن وتحريك قوات درع الجزيرة لفرض النظام بالبحرين).

ويبدو جليّاً الخيار الاستراتيجي لإيران من خلال محاولة تفتيت المكون السنّي عن طريق تبني استراتيجية دعم أحد الأجنحة للوقوف ندّاً لند في وجه السعودية في أفق إضعاف المملكة وفرض الكيان السياسي الجديد (قطر) والذي سَيَسْهُلُ فيما بعد التحكم فيه وتوجيهه واحتوائه.

هذا المعطى تؤكده التحركات الإيرانية التي ترى أن إخضاع السعودية يمر عبر ضرب الأجنحة المكونة لدول الخليج، كمقدمة لضرب السعودية كمركز ثقل العالم السني، ولو استدعى الأمر أن تأخذ قطر مكان السعودية في تمثيل المجتمع السني ولو رمزيّاً ومؤقتاً.

الولايات المتحدة الأميركية: نظرية التوازن وإدامة الصراع

لفهم البنية الوظيفية التي تحكم مسلسل صنع القرار السياسي بالولايات المتحدة الأميركية، يجب الرجوع إلى محددات السياسة الخارجية الأميركية والتي تتبنى «النظرية الواقعية» للعلاقات الدولية والتي أسس لها هانز مورغانتو من خلال كتابه الذي نشر عام 1948م «السياسة بين الأمم». هذه النظرية ترتكز على محددين أساسيين في توجيه الاختيارات السياسية: المصلحة الوطنية ونظرية التوازن.

وإذا كان تحقيق المصلحة الوطنية يبقى هاجساً واقعيّاً، على اعتباره الهدف الأسمى والرئيس الذي يحرك جميع الدول، فإن نظرية التوازن تحتاج إلى توضيح.

في هذا السياق، تقوم نظرية التوازن على خلق نوع من توازن القوى في كل منطقة على حدة، بل ولو أمكن بين كل دولتين على حدة، من خلال خلق مناطق نزاع أو نعرات طائفية أو مشاكل حدودية، يمكن اللعب عليها وتحريكها كلما دعت الضرورة للضغط على طرف من الأطراف. كما تقوم نظرية التوازن على توزيع مدروس لمناطق النفوذ بين قوى الإقليمية من أجل خلق ما يصطلح عليه بمفهوم «السلطة المراقَبة» (بالفرنسية Le Pouvoir modéré)، حيث تقوم هذه القوى الإقليمية، بحكم التناقضات التي تميز كل نظام سياسي على حدة، بمراقبة بعضها البعض مما يخلق نوعاً من «التوازن» يخدم الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، والتي تعمل على اللعب على حبال هذا التوازن بترجيح كفة طرف للضغط على الطرف الآخر وهكذا.

هذا التأصيل تُفسره المواقف المتذبذبة لأميركا من إيران، والتفاهمات التي تعقدها معها «تحت الطاولة»، ويُظهر بجلاء الرغبة في إدامة الصراع في المنطقة من أجل الاستمرار في ابتزاز دول الخليج لتحقيق روزنامة مصالح على حساب التوتر السعودي - الإيراني.

غير أن المملكة العربية السعودية تبدو واعية بأبعاد الاستراتيجية الأميركية في المنطقة من خلال انهماكها على إعادة ترتيب الأوضاع في الخليج لما يخدم الأمن القومي لدول المنطقة في أفق تحقيق الهدف السياسي الأسمى والمتمثل في ضمان «استقلالية القرار الخليجي» في علاقتها بباقي القوى العظمى. هذه الاستراتيجية يبدو أن دولة قطر ما زالت لا تُقدّر أبعادها وقيمتها الشيء الذي يُرشّحها لتصبح قريباً «دولة بلا سيادة».