أحمد يوسف أحمد 

دائما ما كان الصراع على الموارد الطبيعية ـ وفى موقع الصدارة منها المياه والطاقة ـ مصدراً لصراعات دولية وأهلية، فلا يمكن فصل مسار الصراع العربى - الإسرائيلى فى مراحله المختلفة عن قضية الموارد المائية فى المنطقة، كذلك لا يمكن فهم الغزو العراقى للكويت أو الأمريكى للعراق عن الثروة النفطية لهذين البلدين، وكم من التقلصات السياسية العنيفة فى بلدان عديدة وُجد له تفسير فى الصراع على الموارد كما فى الانقلابات العسكرية السورية فى أربعينيات القرن الماضي، والإطاحة فى خمسينياته بحكم مصدق بتواطؤ دولى بعد تأميمه النفط الإيراني، كذلك لا يمكن اكتمال فهم الصراع الذى انتهى بانفصال جنوب السودان، أو الذى وصل إلى حد مطالبة الحراك الجنوبى فى اليمن بالانفصال، أو محاولة كردستان العراق الاستقلال دون وضع الثروة النفطية وتوزيعها فى هذه البلدان موضع الحسبان، وفى الآونة الأخيرة برز إقليم شرق المتوسط باعتباره حاضناً محتملاً لثروات هائلة من النفط والغاز وفقاً لدراسات لا شك فى علميتها، وتعزز هذا باكتشافات حقيقية كان أبرزها أخيرا حقل «ظهر» العملاق الذى اكتُشف فى المنطقة الاقتصادية الخالصة المصرية مبشراً بوضع مصر على خريطة القوى الإقليمية الكبرى المنتجة للغاز، وبعدها زادت مؤشرات الصراع على هذا المورد الطبيعى الحيوى فى شرق المتوسط، وأقول زادت لأن هذه المؤشرات موجودة منذ سنوات لكن «البلطجة» وفقاً لتسمية الدكتور مصطفى كامل فى مقاله الأخير بالشروق تفاقمت.

ولدينا من الحالات الظاهرة للبلطجة اثنتان، الأولى تتعلق بادعاء إسرائيل ملكية جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية تبلغ مساحته 860 كم2 ومن ثم اعتراضها على منح لبنان امتياز التنقيب فيه لائتلاف ثلاث شركات فرنسية وإيطالية وروسية، والثانية الاعتراض المفاجئ لتركيا على اتفاقية تعيين الحدود البحرية المصرية - القبرصية الموقعة فى 2013! وبينما تحاول إسرائيل إكساب ادعاءاتها ثوباً قانونياً بإحداثيات خاطئة، فإن تركيا لا تتورع عن بناء ادعاءاتها على باطل، فحجتها الأساسية أن الاتفاقية المُعترض عليها لا تأخذ مصالح جمهورية القبارصة الأتراك فى الاعتبار، وهى لمن نسى تلك الجمهورية التى أُعلنت بعد الاحتلال التركى لشمال قبرص فى 1974 والتى لم يعترف بها أحد سوى تركيا! فهى كعادتها فى مخالفة القواعد القانونية الدولية المتعارف عليها تريد أن تؤسس على اغتصابها جزءاً من الإقليم القبرصى اغتصاباً آخر لجزء من الثروات القبرصية، وبينما اكتفت إسرائيل حتى الآن بالتهديدات حال إقدام السلطات اللبنانية على البدء بالتنقيب الفعلى فإن تركيا منعت سفينة التنقيب التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من الوصول إلى الموقع المتفق عليه بحجة وجود مناورات عسكرية! وبينما تدخلت الخارجية الأمريكية فى الحالة الأولى لسبب ظاهر وهو أن إسرائيل طرف فى النزاع، فإن هذا التدخل لا يعنى فى الواقع سوى أن الإدارة الأمريكية تعلم ألا حق لإسرائيل فيما ذهبت إليه, لأنه لو كان العكس هو الصحيح لنهرت الحكومة اللبنانية لاعتدائها على الحقوق الإسرائيلية، والمؤسف أنها من هذا المنطلق تتعامل مع القضية بمنطق «الصفقة» بمعنى اقتراح أن يتم اقتسام المنطقة المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان بنسبة 40% و60% على التوالي، وهو منطق سخيف لأن المسألة قانونية بامتياز، وقواعد حساب المنطقة الاقتصادية الخالصة محددة بدقة وإن كان هذا لا يعنى بالضرورة سهولة هذا الحساب ولكنه لا يعنى بالتأكيد عشوائيته، أما قبرص فهى أحسن حالاً لأنها عضو فى الاتحاد الأوروبي، ولذلك فقد ساندتها تصريحات عديدة من ناطقين باسم مؤسساته وإن لم تُتخذ إجراءات حاسمة حتى الآن، بل لقد كان هناك تصريح غامض لوزير الخارجية الإيطالى تحدث عن تطلعه لحل يتماشى مع القانون الدولى ويصب فى مصلحة «إيني» ودول المنطقة و«مجتمعي» قبرص وكأنه يقنن بهذه الادعاءات التركية بوجود حقوق لما يسمى بجمهورية القبارصة الأتراك.

ينظر البعض إلى ما يجرى وكأنه لا يعنينا, بمعنى أنه مشكلة بين قبرص وتركيا فضلاً عن التوتر بينها وبين اليونان، وهو منطق خطير أولاً لأننا طرف فى الاتفاقية المُعترض عليها والتى تتأسس عليها حقوقنا فى منطقتنا الاقتصادية الخالصة، وللعلم فإن التحرش التركى بسفينة التنقيب الإيطالية وقع على بعد مائة كيلومتر فقط من حقل «ظهر» وعلى الرغم من أن الحسابات المصرية متأهبة لكل الاحتمالات كما يُفهم صراحة من التصريحات العسكرية الرسمية فإن التصعيد ليس فى مصلحتنا ولا فى مصلحة غيرنا، لأن تفجر العنف فى شرق المتوسط سوف يكون على حساب الجميع، ولذلك لابد من العمل الجاد لحصار منطق البلطجة وهزيمته، ونلاحظ أنه لم ينجح فى حالات سابقة تراجعت فيها تركيا عن التهديد بالتصعيد، بينما نجح بالفعل فى حالات أخرى كما فى إحباط إسرائيل اكتشافات الغاز قبالة سواحل غزة، ومن حسن الحظ كما سبقت الإشارة أن المسألة قانونية بامتياز فنحن لا نتحدث عن «حق تاريخي» للصهيونية فى فلسطين أو اعتبارات «الأمن القومي» التركى فى سوريا وإنما يتعلق الأمر باتفاقية دولية مستقرة لقانون البحار فى إطار الأمم المتحدة منذ 1982 ناهيك عن وجود محكمة دولية لقانون البحار أُنشئت بتفويض من مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار ونظرت غير مرة فى نزاعات حول ترسيم الحدود البحرية، وإذا كان هذا المسار القضائى يمكن أن يستغرق وقتاً فهناك الضغط السياسي، خاصة أن كلاً من قبرص واليونان عضو فى الاتحاد الأوروبي، كما أن تركيا واليونان عضوان فى حلف الأطلنطي، يجب ألا ننسى أن تركيا غارقة لأذنيها فى حالات أخرى للبلطجة، كذلك فإن تصريح الأمين العام للجامعة العربية الذى أيد فيه الحق اللبنانى يجب أن يكون بداية لعمل عربى جاد يساند لبنان.