راجح الخوري

 عندما افتتح سيرغي لافروف «منتدى فالداي» يوم الاثنين الماضي، بتوجيه تحذير جديد إلى الولايات المتحدة من اللعب بالنار في سوريا، في إشارة إلى دعمها للوحدات الكردية شرق الفرات، كانت المقاتلات الروسية تشارك النظام وحلفاءه في القصف المدمر الذي تتعرض له ضاحية دمشق الشرقية، والذي يذكّر بمعركة تدمير حلب، وكانت تركيا التي تتوعد بالسيطرة على عفرين، تقصف رتلاً من المقاتلين الشيعة، الذين دفعتهم إيران والنظام للتوجه إلى دعم عفرين، للوصول إلى الحدود الشمالية السورية.

«أدعو زملاءنا الأميركيين مرة أخرى إلى عدم اللعب بالنار في سوريا...». ولكن من الذي لا يلعب بالنار أيها الرفيق لافروف في هذه المحرقة السورية المتأججة، التي تكتب فصولها الدموية الأخيرة في الغوطة الشرقية وفي عفرين، والتي كانت قد شهدت فصلاً قاتلاً آخر على ضفة نهر الفرات، عندما قصف الطيران الأميركي يوم 7 (فبراير) شباط الحالي، رتلاً هاجم قاعدة تابعة لـ«جيش سوريا الديمقراطية» يوجد فيها عسكريون أميركيون، وجاء ذلك موازياً تقريباً للغارات الإسرائيلية على مواقع الإيرانيين، بعد قصة طائرة «الدرون» الإيرانية التي أسقطت فوق إسرائيل، وتلاها سقوط مقاتلة «إف 16» إسرائيلية بصواريخ سوريا؟
التذكير بكل هذا لمجرد طرح السؤال: ومن الذي لا يلعب فعلاً بالنار في سوريا؟ كلهم يؤججون هذا الجحيم الذي يبدو أنه لن يخبو قريباً، فقد تهاوت كل الحلول تباعاً من جنيف واجتماعاتها الثمانية، إلى آستانة واجتماعاتها السبعة، إلى سوتشي التي لفظت أنفاسها سريعاً، رغم الرهان الروسي على أنها ستضع حلاً للأزمة السورية!
نعم كلهم يلعبون بالنار السورية، وهو ما يذكرني بقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز، عام 1988، بعد جولة يائسة قابل خلالها حافظ الأسد، وعبد الحليم خدام، والرئيس أمين الجميل: «إن الأزمة اللبنانية باتت أشبه بمفاعل يعمل بطاقته الذاتية»!
كان هذا بمثابة إعلان لليأس من الحلول، واستمرت الحروب في لبنان وعلى لبنان 17 عاماً، وهناك خوف مبرر من أن تستمر الحروب في سوريا وعلى سوريا زمناً طويلاً، خصوصاً في ظل تقاطع المصالح والحسابات والأطماع المعلنة بالحصول على أكبر حصة من «الجبنة السورية». وفي هذا المجال تحديداً يجدر التوقف عند تصريحات مستشار علي خامنئي، اللواء يحيي صفوي، يوم 17 فبراير الحالي، بأن مساعدة طهران للنظام ليست عملاً خيرياً، وبأن على إيران أن تعوض ما أنفقته في الحرب من النفط والغاز والفوسفات السوري، ذلك أن «الروس عقدوا اتفاقات لمدة 49 عاماً في سوريا، ونالوا عبرها قاعدة عسكرية وامتيازات سياسية، وإيران بدأت تصدّر (لاحظ «تصدّر» لا تستورد) الفوسفات من سوريا حالياً.
هل سيقف الأميركيون ورفاقهم في «التحالف الدولي» متفرجين على الروس والإيرانيين وهم يأكلون «الجبنة السورية»؟ وهل «المائدة السورية» هي مجرد فوسفات وغاز ونفط ومصالح اقتصادية وسياسية؟ وأين حسابات إسرائيل العسكرية التي تنسّق على خطين مع الروس والأميركيين، لضمان تثبيت الحزام الأمني بعمق 50 كيلومتراً في جبهة الجولان الممتدة إلى الحدود الأردنية؟ ثم أين حسابات تركيا الأمنية، التي شنّت حملتين عسكريتين، آخرهما «غصن الزيتون»، لتأمين شريط أمني في الشمال في وجه الأكراد؟ وأين طموحات الأكراد الذين كانوا قد أعلنوا حكماً ذاتياً في منبج وعفرين، والذين خاضوا بدعم وتدريب وتسليح من واشنطن معركة شرسة وطويلة من كوباني إلى تحرير الرقة؟


واضح أنه دون تسوية هذه الرهانات والحسابات المتقاطعة، مراحل طويلة من المواجهات التي لن تتوقف على ما يجري الآن من تدمير ممنهج لضاحية دمشق الشرقية، حيث سقط أكثر من 300 قتيل في الأيام الأخيرة، وسط عجز دولي معيب عبّرت عنه تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وكذلك المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، إضافة إلى الخارجية الأميركية التي تتحدث عن القلق مما يجري، في حين يحاول الروس التنصل من مسؤولية التدمير والقتل الذي تشارك فيه مقاتلاتهم، بالدعوة إلى عقد مجلس الأمن لوقف النار!
السؤال الأكثر إلحاحاً الذي يطرح على الروس: أين ذهبت الوعود المتفائلة عن مناطق خفض التوتر الأربع، التي كانت موسكو قد رتبتها مع إيران وتركيا في آستانة في 7 مايو (أيار) من العام الماضي؟ وأين صار المراقبون الروس الذين قيل إنهم وصلوا وتمركزوا في نقاط على مداخل الغوطة الشرقية لضبط الوضع؟ وماذا يحصل في محافظة إدلب التي حجبتها معركة عفرين؟
كل هذا قد تهاوى؛ لكن الأخطر هو ما حصل على ضفاف نهر الفرات قرب دير الزور، ليل السابع من فبراير الحالي عندما قصفت المقاتلات الأميركية رتلاً من المسلحين، الذين كانوا قد عبروا النهر لمهاجمة أحد مواقع «جيش سوريا الديمقراطية»؛ حيث كان يوجد عسكريون أميركيون، وأسفر القصف الأميركي عن سقوط ما يقرب من 296 بين قتيل وجريح، بينهم عدد كبير من المرتزقة الصرب والأوكرانيين، الذين يعملون مع شركة «واغنر» الروسية، التي تشبه شركة «بلاك ووتر» الأميركية، التي ذاع صيتها في العراق بعد عام 2003.
كان من الواضح في الأيام الماضية أن الروس والأميركيين حرصوا على إحاطة هذه العملية بجو متعمّد من الغموض والالتباس، تلافياً لتدهور عسكري كبير بين الدولتين، والدليل أن سيرغي لافروف قال في «منتدى فالداي»، إن التقارير التي أفادت بمقتل مئات من المتعاقدين الروس في سوريا هي محاولة لاستغلال الحرب السورية، وكانت ثلاثة مصادر مطلعة قد أبلغت «رويترز» بأن نحواً من 300 عسكري سابق متعاقدين لصالح شركة عسكرية روسية خاصة (واغنر) على صلة عملانية بالكرملين، سقطوا بين قتيل وجريح في قصف جوي أميركي، رداً على محاولة الهجوم على موقع في دير الزور!


جاء الهجوم بعدما كان عدد من المقاتلين الأكراد قد انتقلوا لمساندة رفاقهم في عفرين. كانت محاولة روسية لقرع أبواب الأميركيين الذين جاء جوابهم صاعقاً، لكن الضباط الروس سارعوا إلى القول للأميركيين إن موسكو ليست ضالعة في الهجوم، وهنا تلقف وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس الأمر محاولاً تجاوز التصعيد والصدام بالقول: «لست قادراً على تقديم معلومات بأن المهاجمين حصلوا على توجيهات من أحد... لكنني أشك في أن يكون 297 شخصاً قرروا من أنفسهم عبور النهر فجأة إلى أراضي الخصم، وبدأوا قصف موقع له، وحركوا دبابات ضده!».
كان هذا كافياً لتجاوز مواجهة بين أميركا وروسيا؛ لكن المعارك مستمرة بينهما في أماكن أخرى عبر الوكلاء، وآخرها عفرين، في حين ينهمك الروس في تدمير الغوطة على طريقة حلب، ويموهون على ذلك بدعوة مجلس الأمن إلى البحث في وقف للنار... لكنها فصول النار في الجحيم السوري!