السيد ولد أباه 

«يورجن هابرماس» هو أكبر فلاسفة الغرب الأحياء (بلغ من العمر 88 سنة) وقد أجرى حواراً فكرياً معمقاً مع صحيفة «لوموند» الفرنسية في ملحقها للكتب هذا الأسبوع، بمناسبة ترجمة بعض أعماله الأخيرة إلى الفرنسية، أجلى فيها فكرته بضرورة ترجمة المضامين العقلانية القيمية في التقاليد الدينية إلى لغة العقل العمومي المشترك. على عكس الصورة المبسطة السائدة أن الحداثة الفلسفية كرّست القطيعة مع الدين، يُبين «هابرماس» أن الفلسفة الحديثة سعت دوماً إلى امتصاص الشحنة المفاهيمية في اللاهوت وتحويلها إلى مفاهيم نظرية هي مادة الفكر الفلسفي المتداول مثل مفاهيم: قوة الإرادة والاستقلالية الذاتية والقانون والفردية والوعي والتاريخية والتحرر.. وبالرجوع إلى الجيل الحاضر من الفلاسفة البعيدين في الظاهر عن الدين مثل «لفيناس» و«دريدا» يبدو من الجلي أن هذا التفاعل الحي بين الفلسفة والدين لا يزال قوياً مؤثراً، بيد أن «هابرماس» يؤكد أن الأخلاق العقلانية الحديثة لا تتأسس على العقيدة الدينية، وإنما دور الدين يبرز في المشكل الذي يطرحه تحدي التعاضد والتضامن في مجتمعات تقوم على أولوية الفردي الذاتي، أي الصدام الحتمي بين الذاتيات الفردية المعزولة، بما هو واضح اليوم في تحكم العقلانيات الأداتية النفعية في العالم المعيش، أي تحول السوق إلى نموذج العلاقات الاجتماعية الذي يقوض القوة المجردة للمعايير الكونية ويضعف مناعة الإنسان القيمية.

وإذا كانت عاطفة التضامن الديني يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى تأجيج العنف ضد المجموعات والهويات الدينية الأخرى، فإن دور الفلسفة كان دوماً الحيلولة دون هذا الخطر من خلال عقلنة المضامين القيمية في الدين وتوجيهها في البعد الإنساني الكوني.

ما نريد أن نبينه في ضوء ملاحظات «هابرماس»، هو أن أحد المداخل الأساسية الكبرى لمواجهة التطرّف الديني العنيف في عالمنا الإسلامي هو إعادة الاعتبار للفلسفة، من أجل تأدية هذا الدور العقلاني الإنساني، في مقابل النزعات المتشددة التي تستند لقراءات اختزالية فقيرة لنصوص الشرع وأصوله، عبّر عنها العلامة الشيخ عبد الله بن بية بالمقاربات الحرفية، التي تعتمد الدليل الناقض (من خلال تجزئة النص دون ربط مطلقه بمقيده وعامه بمخصصه وظاهر اللفظ بتأويله).

لقد أدت تاريخياً الفلسفة في السياق الإسلامي هذا الدور من خلال التفاعل الحي والعميق بين عِلم الكلام الذي هو نمط التفكير العقلاني من داخل النص الديني، والمناهج الفلسفية في أصولها اليونانية التي عرفها المسلمون مبكراً من خلال المدارس الشامية المصرية التي انتقلت إليها الفلسفة اليونانية في العصر الروماني. ما أفضى إليه هذا التفاعل الخصب بين الكلام والفلسفة هو استكشاف الأبعاد العقلانية القيمية في الإسلام بلغة بُرهانية كونية، مثل صياغة عقيدة الخلق من منظور الكوسمولوجيا الأفلاطونية -الأرسطية أو تطوير نظرية الذرية الكلامية في أفق رياضي هندسي، وتفجير ثورة ميتافيزيقية في تاريخ الفلسفة من خلال التمييزات الكلامية بين الماهية والوجود، سيكون لها تأثير نوعي حتى العصر الحاضر، وصياغة مقاربة تأويلية للنص الديني من حيث العلاقة بين العقل والمثال في إطار التفكير الفلسفي في النبوة.

هذا الدور الفلسفي الذي تشبعت به الثقافة الإسلامية الوسيطة بعد ترسخ العقيدة الأشعرية الأخيرة المتأثرة بـ«السينوية»- نسبة لابن سينا- هو الذي حمى النسيج الإسلامي من التحلل والتفكك والتصادم نتيجة لمعتقدين أساسيين تقاسمتهما المجتمعات السُنية وهما:التمييز بين الإيمان والعمل وما يعنيه من نبذ التكفير، وبالتالي قبول الاختلاف في المقاربات التأويلية المتعددة لأصول العقيدة وأحكام الشرع، وفك الارتباط بين العِقدي والسياسي بالنظر للإمامة والسلطة خارج دائرة العقيدة واعتبار الدولة من القضايا التدبيرية العملية، وبالتالي قطع الطريق أمام الفتنة والصِدام الأهلي على أساس الدعوات الدينية السياسية.

الملاحظ اليوم أن الفلسفة وصنوها الكلام تراجعا إلى حد مريع في المجال الإسلامي، في الوقت الذي تقوّت النزعات المتشددة المتطرفة التي تحارب العقلانية الفلسفية باعتبارها من الغزو الثقافي المرفوض (على عكس مقاربات علماء الإسلام ومفكريه في العصور الوسيطة إزاء الموروث اليوناني )، كما تحارب علم الكلام نفسه الذي لا ترى فيه إلا لغواً وترفاً، مع أن عموم أهل السُنة اشتغلوا به من قبل واعتبروه المرجعية الصحيحة للاعتقاد.

في جل الثانويات والجامعات العربية لم تعد الفلسفة تُدرّس، ولم يعد للخطاب الفلسفي أثر، وليس من المستغرب أن يكون قادة التطرّف والإرهاب من خريجي الكليات العلمية والتقنية، في الوقت الذي انهار الدرس الكلامي في كليات الشريعة والمعاهد الدينية، بما يفسر سهولة اقتناص دعاة الأيديولوجيات المتشددة لطلبة العلوم الشرعية.

الحاجة اليوم قوية إلى الفلسفة لدفع المشروع التأويلي المتعطل، وتوطيد الأفق الإنساني الكوني في الدين، خروجاً من حال الفتنة والتشدد التي تقود إلى انتحار جماعي للأمة.