طيب تيزيني

مع بلوغنا هذه الضفة من مشروع الإصلاح النهضوي العربي، نكون قد أصبحنا وجهاً لوجه أمام البنية الدينية لهذا الإصلاح، وهو ما قد يكون مُحاطاً بالإشكالية والتعقيد. وفي رأينا أن هذا المطلب الأخير وجد معوقاً تأسيسياً من المسألة، فالدين الإسلامي هو في أساسه وجوهره «دين ودنيا»، ما يجعل الأمر قابلاً للتشخّص على ذلك الأساس، بحيث يكون ثمة عدل معرفي ومنهجي وراء هذه المصلحة الضرورية في حياة البشر. فحين نأخذ العناوين التالية بعين الاعتبار، فإننا نكون قد استجبنا لذلك المطلب الحيوي. أما العناوين فهي: «الإسلام وأصول الحكم» لمؤلفه علي عبدالرازق، و«امرأتنا في الشريعة والمجتمع» لمؤلفه الطاهر حداد، و«ابن رشد وفلسفته» لمؤلفه محمد عبده، و«رسالة التوحيد» لمؤلفه محمد عبده أيضاً، و«تحرير المرأة» لقاسم أمين، و«لماذا تأخر المسلمون» لمؤلفه شكيب أرسلان، و«نقد الفكر الديني» لمؤلفه صادق جلال العظم، إلخ، و«النص القرآن أمام إشكالية البنية والقراءة» لمؤلفه طيب تيزيني.. فهذه الأعمال وأسماء مؤلفيها تسمح بالتحدث عن التحولات التي طرأت على صعيد الفكر الإسلامي، ما يفضي إلى القول بوجود «تاريخ» لهذا الفكر، وهو تأكيد نتلقفه في المرجعية الإسلامية الحاسمة، أي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وما سجله المسلمون من أقوال على مدار التاريخ الإسلامي، فكل ذلك يشي بتاريخ خاص أنتجه النص القرآني في حياة المسلمين، بما أحدثه من تحولات في حياتهم على مدى قرون ليست قليلة.

وبالطبع فقد برزت ضوابط معرفية وسياسية وأخلاقية وغيرها. وهذا من طبائع الأمور: إن من ينظر إلى ذلك يكتشف أن خلفه تكمن معايير في حياة الناس إن لم تؤخذ بعين الاعتبار، فإن المشكلات والإشكالات تواجهه بمساءلة سليمة تتحدد في ما إذا كان الناس يطمحون إلى إنتاج مسوغات منهجية للتحولات التي يواجهونها. وقد حدث مثل ذلك حين استنبط مفكرون ومصلحون ما يصلح مما أخذناه وفق قانون للتوافق بين الفكر والقيم الأخلاقية بمقتضى التحولات التاريخية. وربما كانت القاعدة القائلة بتغير الأحكام مع تغير الأزمان، واحدة من القواعد الناظمة لأحداث التاريخ المتصاعد، ومن أجل ذلك أخذنا نواجه المنظومات المنهجية التاريخية في حالات من التغير المتجدد. وفي هذه العملية المركّبة أخذنا نواجه الباحثين الجدد منذ أوائل الأحداث التاريخية المعنية.

وباستخدام المنهجيات العلمية الحديثة يمكن الوصول إلى نقاط مهمة في المنظومة الدينية الميتافيزيقية التي أخذت طريقها في التعميق والتخصيص، جواباً على التحولات التي راحت تثير أسئلة وإشكاليات في حياة الناس.

وجاءت تلك الإشكاليات في سياق تحولات سياسية، من قبيل الصراعات الطائفية بين أهل المذاهب، إلى درجة أصبحت فيها تهدد وحدة الأوطان وتخلق صراعات أثبتت أنها قادرة على تفكيك الدول، كما هو الحال في مرحلتنا الراهنة.

وعلى ذلك النحو، وقياساً على ما يحدث في مجالات أخرى، يتعين ضبط المنظومة المفاهيمية الجديدة، المهيمنة، أي منظومة الثابت والمتحول. وفي هذه الحالة يتم الحفاظ على الثابت المتعلق بأصول الدين، وتطوير المتغير الذي يلخص عالم البشرية في سكونه وحركته، فهو يسمح بمادته البحثية وفقاً للمنظومة الدينية الإسلامية بالاستجابة لاحتياجات المنظومة المفاهيمية الدينية التي لا تقف عائقاً أمام التغير والتنوع والتحول.

وبذلك يكون مشروع الإصلاح النهضوي على الصعيد الديني الإسلامي قد وجد صورته الحية من دون الوقوف في وجه الآخر.