عبد الرشيد محمودي

إذا عد عظماء الفلاسفة على أصابع اليد الواحدة، فإن الفيلسوف الألمانى ايمانويل كانط (1728-1804) ينبغى أن يكون واحدا منهم. وهو فيلسوف عقلاني، ونقدي، ورائد من رواد التنوير، وصاحب مذهب أخلاقى يؤكد مفهوم الواجب والعمل وفقا لأوامر مطلقة (غير مشروطة). ولكن الفيلسوف العظيم يتهم بضيق الأفق، والتقليل من شأن المرأة، ومعاداة السامية، والعنصرية. فإلى أى حد يمكننا أن نأخذ هذه الاتهامات مأخذ الجد؟ وما هو موقف الفيلسوف من الإسلام والمسلمين؟

كتاب كانط عن الأنثروبولوجيا وبعض أعماله الأخرى فى الجغرافيا والشعور الجمالى حافلة بطرائف ونوادر لا ضرر منها، وتدعو إلى الابتسام بدلا من الاستنكار. كما أن كانط يصنف البشر أربعة أجناس بحسب لون بشرتهم ومرتبتهم فى سلم الإنسانية. فهناك على رأس القائمة الأوروبيون البيض، ويليهم فى مراتب أدنى فأدنى الآسيويون الصفر، فالأفارقة السود، فالهنود الأمريكيون الحمر. ولون البشرة فيما يرى كانط علامة على أن صاحبه يحمل أو لا يحمل قدرا من «الموهبة» التى فطر عليها، وهى قدرته على التعلم والتحسن والاقتراب من المثل الأخلاقى الأعلى للإنسانية. ولكن ما هو مكان المسلمين والعرب فى هذا التصنيف الرباعي؟ هم وفقا لكانط فى المرتبة الثانية من سلم الأجناس، أى فئة الآسيويين (الصفر). وتترتب على هذا التصنيف نتائج خطيرة. يقول كانط فى تعريفه لما يسميه بالمحمدية أو دين محمد: «أما دين محمد فهو يتميز بالكبرياء، إذ بدلا من المعجزات، هو قد وجد التأييد الخاص بإيمانه فى الانتصارات وفى قهر الشعوب الأخري، وطقوس عبادته كلها من نوع شجاع«. ويحاول كانط البحث عن سبب لصفة الكبرياء المميزة للإسلام، فيقول: »هذه الظاهرة المتميزة (ظاهرة الكبرياء لدى شعب جاهل ليس بعالم إلا أنه بصير بإيمانه) يمكن أن تأتى من تخيل مؤسسه، كونه وحده قد جدد فى العالم مرة أخرى مفهوم وحدة الله وطبيعته فوق المحسوسة، وبلا ريب سيكون فى ذلك نحو من النبل الذى أضفاه على شعبه إذ حرره من عبادة الصور ومن فوضى الشرك، [هذا] إذا كان يستطيع أن ينسب لنفسه هذا الفضل عن حق« (انظر إيمانويل كانط، الدين فى حدود مجرد العقل، ترجمة فتحى المسكيني، بيروت 2012، ص 288). والعربى فى نظر كانط ليس سوى البدوى المترحل الذى يعتد بنفسه ويشعر أنه أرستقراطى فى مقابل الغير. يقول كانط : «العربي، أو المغولي، يكن الاحتقار لسكان المدن ويعد نفسه أعلى شأنا مقارنة بهم، لأن التجوال مع خيله وغنمه فى الصحراء أكثر متعة من العمل«. والعربى فيما يرى كانط هو »أنبل إنسان فى الشرق، رغم أن لديه شعورا سرعان ما ينتهى إلى نزوع نحو المغامرة. وهو مضياف، وكريم، وصادق، ولكن حكاياته وتاريخه وعاطفته بصفة عامة تحمل فى طياتها دائما شيئا عجيبا. وقوة خياله المتوقدة تصور له الأشياء فى صور مشوهة.. إلا أن الميل إلى المغامرة والولع بما هو عجيب وجموح الخيال تعد فى رأى كانط مصدرا للخطر إذا خرج العربى عن مكانه الطبيعى البعيد فى الشرق واقتحم المجال القريب. فهو عندئذ يثير الحيرة والاضطراب ويفقد الإنسان شعوره بالاتجاه ويخرج به عن الترتيب الصحيح للأمور. وذلك ما بينه باقتدار إيان ألموند فى الفصل الذى خصصه لكانط فى كتابه عن تاريخ الإسلام فى الفكر الألماني. فكانط فيما يرى بحق مغرم بتحديد الحدود فى جميع المجالات التى يطرقها. ومن شأن الحماس الذى يتميز به البدوى أن يجتذب الجموع ويحشدهم فيما يشبه أسراب الطير. ويرى ألموند أن الأرض التى يريد كانط ترسيم حدودها بوضوح وحمايتها من ذلك الخطر هى فى نهاية المطاف أرض أوروبية. ولقد أصاب ألموند عندما اتخذ من فكرة تحديد الحدود والمحافظة عليها مدخلا لدراسة موقف كانط من الإسلام والمسلمين. وذلك أن النقد فى فلسفة كانط هو أساسا بيان حدود المشروعية لموضوع البحث. ومؤدى هذا النهج النقدى عند تطبيقه على المسلمين والعرب أن أوروبا والحضارة والفلسفة والعلم والتفكير العقلانى فى مأمن من خطرهم طالما لزموا مكانهم الطبيعى (فى الشرق البعيد) خارج الحدود الأوروبية.

ومن الواضح أن آراء كانط فى هذا المجال لا تستند إلى دراسة جادة لتاريخ الإسلام. وهو أسير نظرة ضيقة فلا يرى من هذا التاريخ إلا مرحلة البداوة، واجتياح الأتراك العثمانيين لأوروبا وطغيانهم على شعوبها. ولكن نقد كانط على هذا النحو لا يفى بالغرض. وينبغى أن يضاف إلى ذلك أن الفيلسوف العظيم كان يرفض إجراء تلك الدراسة، ويتعمد التجاهل والتجهيل. فمن الصعب أن نصدق أنه لم يسمع بحضارات العرب والمسلمين، ومنها بصفة خاصة حضارة الأندلس التى ازدهرت فى جنوب غرب أوروبا. ومن المحال أن نصدق أن كانط الذى كان يجيد اللاتينية لم يكن يعلم أن أعمال الفلاسفة المسلمين نقلت إلى هذه اللغة انطلاقا من إسبانيا وصقلية. ومن المؤكد أنه لم يكن على جهل تام بابن رشد، وابن رشد شارح أرسطو الأكبر - لم يكن وما كان يمكن أن يكون - ثمرة لثقافة بدوية. ومن الغريب والمحزن أن الفيلسوف الذى كان يؤمن بالإنسانية الشاملة انتهى إلى استبعاد معظم البشر منها وحصرها فى نطاق أوروبا البيضاء.