سالم الكتبي

تمحورت معظم نقاشات الصحف ووسائل الإعلام في منطقة الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة على التأثيرات الإستراتيجية الناجمة عن سقوط مقاتلة «إف 16» الإسرائيلية بصاروخ سوري، اختلفت الروايات في الإشارة إلى نوعيته وطرازه، ولكن المؤكد أن هناك دعما لوجستيا إيرانيا حصلت عليه الدفاعات الجوية السورية في التعامل مع الهجوم الجوي الإسرائيلي.

اعتادت إسرائيل في السنوات الأخيرة على استباحة الفضاء السوري، حيث صالت وجالت المقاتلات الإسرائيلية مرات عدة في المجال الجوي السوري، ولم تواجه سوى بحق الرد «في التوقيت والمكان المناسبين»، لهذا كان سقوط المقاتلة الإسرائيلية أمرا مفاجئا للقادة الإسرائيليين، وأحدث هزة «نفسية» وسط المجتمع الإسرائيلي الذي يعتمد تماسكه بالدرجة الأولى على الثقة المطلقة في التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي وقدرته على الردع وامتلاكه «ذراعا طولى» قادرة على توجيه ضربات قوية للأعداء الإستراتيجيين لإسرائيل.

أنكرت إيران رسمياً علاقتها بإسقاط المقاتلة الإسرائيلية، ولكن احتفاءها بالعملية «فضح» دورها، فلم يكن احتفاء تقليديا، ولا مجرد مشاركة للنظام السوري في غبطته بما اعتبره إنجازا يغطي على كل الكوارث التي ارتكبها النظام بحق شعبه ودولته، حيث تصر إيران على أن «قواعد اللعبة الأمنية والإستراتيجية» قد تغيرت، وأن اسقاط المقاتلة الإسرائيلية كان مرحلة فاصلة بين مرحلتين!

ترى إيران أنها «انتصرت» في لعبة الشد والجذب واستعراض العضلات الإستراتيجية، وأن هيبة إسرائيل وأن نظرية الردع قد انهارت، وأن قواعد الاشتباك قد تغيرت بفعل سقوط المقاتلة التي تمثل ايقونة سلاح الجو الإسرائيلي بما تمتلكه من قدرات عسكرية نوعية فائقة.

الحقيقة الموضوعية في تحليل المشهد تشير إلى أن هناك أشياء قد تغيرت بالفعل، ولكن القول بأن قواعد الاشتباك وتوازنات القوى قد تغيرت مسألة مبالغ بها، وأن مقدرة إيران على بناء توازن للرعب عبر وجودها «الميلشياوي» في سوريا ولبنان يمثل نوعا من الاستخفاف بالواقع، فالفجوة الهائلة في القدرات التسليحية بين إيران ووكلائها والنظام السوري من ناحية وإسرائيل من ناحية ثانية، كبيرة، ويصعب القول بتلاشيها لمجرد إسقاط مقاتلة إسرائيلية.

ما يحدث الآن هو حرب دعائية /‏ نفسية بامتياز لا علاقة لها بتوازنات القوى الحقيقية، وما يشجع إيران على المضي في ضجيجها ودعايتها هو تداخل الجانب الروسي في الملف السوري، فروسيا هي اللاعب الرئيسي على أرض الواقع في سوريا ولن تسمح بحدوث مواجهات عسكرية من شأنها إهدار ما حققته روسيا من إنجاز في سوريا، وبالتالي فإن إيران تتمترس وراء الموقف الروسي وتستغله في الترويج للمزاعم الخاصة بعدم مقدرة إسرائيل على النيل منها في سوريا!

ليست هناك قواعد اشتباك سورية ـ إسرائيلية قائمة الآن، بل لم تعد هناك قواعد اشتباك واضحة أساساً في سوريا، فهناك طائرات تابعة لقوى كبرى سقطت بفعل فاعل لم يكشف عنه رسمياً حتى الآن، وهناك صراع دولي على النفوذ والسيطرة في سوريا، التي تحولت على حلبة صراع للقوى الإقليمية والكبرى، والموقف بات معقداً لدرجة يصعب تفكيك ألغازها في كثير من الأحيان.

القول بأن الذراع الطولى الإسرائيلية قد انهارت يبدو أيضاً مبالغ فيه من الناحية الاستراتيجية نظراً لطبيعة العمليات العسكرية في الساحة السورية، حيث حلقت المقاتلات الإسرائيلية على ارتفاعات منخفضة ظناً منها بعدم مقدرة الدفاعات الأرضية السورية على اصطيادها اعتماداً على التجارب السابقة، حيث كانت تتحرك في الفضاء السوري من دون أدنى خطر، ولكن هذا الأمر لا يعني أن إسرائيل لم تتشكك ـ عقب إسقاط المقاتلة ـ في القدرات القتالية لقواتها الجوية مفخرة الجيش الإسرائيلي، بل هناك شكوك طالت أداء هذه القوات بالفعل، لسبب رئيسي يتعلق برهان إسرائيل المطلق على قدراتها العسكرية وتفوقها النوعي في البقاء بين جيرانها، فضلاً عن أن سقوط المقاتلة الإسرائيلية قد نال من سمعة سلاح الجو الإسرائيلي بالفعل، لاسيما أن إسقاط المقاتلة الإسرائيلية قد حدث بفعل أنظمة دفاع جوي قديمة.

في النظر للموضوع بشكل أعم، ينبغي الانتباه المقابل إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن إسرائيل قد كسرت محظور المواجهة مع إيران بشكل مباشر، حيث استهدفت للمرة الأولى تاريخياً قواعد عسكرية إيرانية في سوريا، ما يعني فتح المجال لتكرار هذه العملية لاحقاً، فضلاً عن أن العملية برمتها وفرت للقادة الإسرائيليين ذريعة مهمة يمكن استغلالها لانتزاع ضوء أخضر أمريكي لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، بذريعة تهديدها لأمن إسرائيل.

تعيش إيران نشوة انتصار وهمية بمشاركتها في إسقاط مقاتلة إسرائيلية، ولكنها لا تدري أنها قد ورطت نفسها في مأزق بالغ الصعوبة، وأن اعتمادها على الدور الروسي في كبح جماح إسرائيل لن يستمر في حال قررت موسكو رفع غطاء الحماية عن طموحات الملالي.