عبدالله بشارة

 سألني صديق عن أفضل المدن التي أوصي بها، في محاولة منه ليأخذ بالنصيحة. ليس من السهل الاتفاق على الأفضل، فكل منا له أولويات وله مواقع اغراءات ومناطق يتحاشاها، فأنا شخصياً أذهب إلى المدن التي فيها كنوز الثقافة ومنابع الفكر وفيها أفضل الكتب وأنسب الدوريات مع سهولة الوصول إلى المسرح وتواجد الباليه العالمي مع مكاتب لبيع الكتب،

لا سيما في التجمّعات الخيرية، مثل Oxfam، حيث تتواجد الكتب المستعملة القديمة.
أعرف نيويورك ذات الاثارة الواسعة في مطاعمها، والسخية في مسارحها، والغنية في مراكز الثقافة، مثل تجمّعات لنكولن Lincoln Center، الذي يضم معاهد التدريب والتعليم ومسارح الباليه والأوبرا وموقعه قريب من برودواي Broadway، فضلاً عن المتاحف وغاليريهات لوحات الرسم النادرة، لكن نيويورك مدينة صاخبة فيها عوار الرأس؛ بسبب زحام الشوارع بأمواج البشر المتلاطم وحتى المولات فيها تعج بالناس والسواح والزوّار، ويصدر من نيويورك أكثر من ألف كتاب يومياً، ولها مذاق خاص، تطعم الغني بأحلى الأماكن وتقدم للفقير ما يقدر عليه، بما فيها المجلات والكتب التي تباع على ناصية الشوارع، وفوق ذلك يستطيع السائح أن يقيس ضغط دمه في شوارعها من خلال بسطات شباب مولعين بزيادة الدخل.وتبقى لندن أعظم المدن بتنوعها السياسي والمالي والثقافي، والعرقي، فضلاً عن انضباط الأمن وكفاءة شرطتها، من خلال لندن نتعلم معنى الحياة البرلمانية وحياد سلطة الادارة والبيروقراطية، وشفافية القوى البرلمانية، ودور الرأي العام في القرار السياسي، وانعدام الواسطة والمحاباة، وسيطرة الشفافية وانحسار الطبقية وتعاظم اغراءات البساطة في الحياة.
وإذا كانت ميلانو مدينة الاناقة، يمكن القول إن لندن مدينة الثقافة بكل مكوّناتها، فكرياً وسياسياً وثقافياً وعلماً وتنظيراً، وهي مدينة يسهل فيها العمل التجاري بشروط مبسطة وبقليل من التوقيعات، مع تواجد كتب في القسم العربي منها لا تتوافر في العواصم الأخرى، عن تاريخ العرب وسلوك حكامهم وحياتهم الشخصية، وشرح لأنظمتهم، فنقرأ كتباً عن الخليج لا تتواجد فيه، وعن حكام الخليج، قرأت مذكرات المرحوم خالد العدساني التي تباع في أجوارد روود، طبعت في سوريا وتباع في لندن، وسألت صاحب المكتبة عن مصدر الكتاب فنفى معرفته بالتفاصيل، فقط يأتي واحد كل شهر ليأخذ حصيلة البيع.
وللخليجيين مكانة في لندن، في أسواقها وفي مطاعمها وربما في الكازينوهات، يصدر من لندن عشرة آلاف كتاب شهرياً، وتتوسّع كل شهر في توفير أماكن السياحة للأطفال وللكبار وتدفع لتكسب المنافسة مع المدن الأوروبية الأخرى.
تظل باريس أجمل المدن وأشيكها وأسهلها تجولاً في خريطة تعطي الارشادات في الوصول إلى أهم الأماكن مع نظام مواصلات، خصوصاً القطارات المرتفعة النظافة والانضباط، توصل السواح إلى داخل باريس وخارجها، بما فيها الحي اللاتيني المملوء بطاولات ممتدة عليها مختلف الكتب القديمة وفيها أعداد لا تحصى من الكافتيريات وأكشاك الأكل السريع.
أنا أحب ايطاليا الأكثر مخزوناً في التاريخ يتجسّد في مسرح المبارزات في روما، فكل زواياها تاريخ يحكي غزارة في حب السيطرة والامتداد، كما يحكي عن التطور البابوي منذ سيطرة الكنيسة إلى التقلبات الاصلاحية، كما هي حال البابوية الآن، لكن روعة ايطاليا في تنوعها الطبيعي من روعة الجزر إلى سحر البحيرات، مع حيوية بارزة للشعب الايطالي في الترحيب والمتعة.
لماذا تتفوق هذه المدن؟! ولماذا يتسابق السواح للتعرّف عليها والاستمتاع بها؟!
كانت مدن القاهرة ودمشق وبغداد في طريقها إلى محاكاة مدن أوروبا، كنت في القاهرة سائحا عام 1953، كانت القاهرة لوحة مريحة، أصابها الاكتئاب بعد أن جاءها الحكم العسكري فأسقط قنوات التطور فيها، أبرزها الحرية وغريزة التفوق والابداع في أجواء المنافسة مع حكم رشيد بشرعية دستورية، ومهما سعت إدارة حكم الرئيس السيسي فالحل في الحرية البرلمانية مع تدوير الحكم وفق برامج حزبية ما زالت قاعدتها مجمّدة يمكن لها الانطلاق.

ودمشق تحتضن دائماً الانقلابات، ومنها تعلم الآخرون، لا سيما في بغداد التي ابتليت بمستوى رديء من ضباط الجيش، أتعسهم قاسم وأشرسهم ضباط البعث ورئيسهم صدام، الذي دمّر العراق إلى حد البحث عن عون دولي تمثل في إعمار العراق الذي احتضنته الكويت، أبرز أهداف التدمير الصدامي.
العالم العربي ليس بحاجة إلى مثقفين يتغنون بالسلطة ويجملون أعمالها ويتجاهلون سخافتها وسطحيتها ويتناسون هزائمها واخفاقاتها، فالثقافة هي نتاج الحرية تعلو في بيئة حق التعبير وقدسية حق الانسان واحترام آدميته.
وتتفوق دبي على عواصم العرب القديمة، لأن حكام دبي في سباق مع التطور المراعي للحرية، وتتفوق في أعداد السواح على أقدم موقع لحضارة الفراعنة، لأن حكام مصر منذ 1952 خنقوا الإبداع، ولاحقوا أصحابه.
أمام السائح الكويتي خيارات تزيد معرفته وتبهج عائلته وتراعي ميزانيته، والأهم حصيلة المكاسب، فمعظم العواصم تأخذ وتعطي، وهناك مدن عربية تكافح للانضمام إلى المدن المشرقة.