سمير عطا الله

 شاهد مراسل أميركي الألمان يشيّدون مبنى ضخماً للإذاعة عام 1936 فكتب إلى صحيفته يقول: صدقوني، ألمانيا لا تستعد لبث موسيقى بيتهوفن وقصائد غوته. إنها تهيئ للحرب! منذ اختراع الراديو في العشرينات أدركت قوى العالم أنه أصبح في متناولها سلاح جديد لا حدود له. لم تكن الكلمة في حاجة إلا إلى إذاعة، وها هي تحمل جميع الكلمات واللغات، الحرب والسلام، الوئام والعداء، الدعاية والكذب.

وفي البداية ضبطت الدول الإذاعات، واحتكرت البث، وضبطت الأمواج عبر الأثير، لكن مثل كل شيء آخر، ما لبثت أن صارت لعبة من ألعاب هذا العالم، ثم تحولت إلى دمية في أيدي الناس، وأصبح في إمكان أي فلاح في الهند أن يحمل معه راديو صغيراً إلى الحقل ليستمع إلى ما لا يستطيع قراءته.
ثم عمم الاستهلاك والرخص التلفزيون، فتراجع الراديو، ومن ثم ظهر السلاح الأكثر مضاء: ففي الإنترنت، أنت لست مجرد مستمع أو مشاهد، وإنما «متفاعل» أو «متواصل». تسمع وترى وترد وتعلق وتعطي رأيك. يقولون ما يشاؤون، فتقول ما تشاء. يفحشون ويغرون النفوس الضعيفة بأن تفحش هي أيضا.
عالم التواصل الاجتماعي فضاء مفتوح، أمام الأخيار والأشرار معاً. أكثر من استفاد من الراديو منتصف القرن الماضي كانت الأنظمة الديكتاتورية وإعلانات الصابون. لا فرق. والآن يجلس وراء الكومبيوتر تاجر الكليبات، وتاجر المشاعر، وتاجر البغاء، ورجال العقل والفكر والنيات الطيبة والخلق الحسن.
لا رقيب بين هذين العالمين، ولا رادع يحدّ من هذا الفلتان وما يتركه من آثار مدمرة. في بيروت حدث الأسبوع الماضي دمار في الاتجاهين، أو أكثر من اتجاهين، في الفضاء الإلكتروني: تتم «فبركة» أخطر تهمة لفنان بارز في حياة المدينة بأنه عميل إسرائيلي. سلامتك. تهمة لن تأخذه فقط إلى السجن المحدد، بل إلى العار المؤبد. هو وعائلته ورفاقه، وعندما يخرج فلن يرى من يرد عليه التحية.
يا لسوء الحظ! لكن حسنه يقفز فجأة في صورة قاضٍ ذكي وقدير وشجاع يكتشف التزوير، مع أن التهمة آتية من جهاز رسمي، مع أن «المتّهم» أقره وينقلب البلد. وجميع الذين أحرقوا زياد عيتاني وتحلّوا برماده دون رحمة، عادوا، ليس ليعتذروا أو يعتبروا، وإنما ليضرموا النار في ثياب الضابطة التي زُعِمَ أنها فبركت له الفخ.
في الحالتين لم يكن قد صدر حكم نهائي بعد، لا على الضابطة الحسناء التي تشبه ممثلات السينما، ولا في براءة الممثل الحزين. لكن لا يهمّ. امتلأت مواقع التواصل بأقسى التعابير والتهم والأحكام. واحدة من أحزن القضايا الإنسانية وأدنى المؤامرات، جردتها المواقع من أعماقها، ولم يعد أحد ينتبه إلى ما فعلته مؤامرة فظّة في حياة إنسان.