سليمان جودة

 هذه هي المرة الأولى التي أستمع فيها عن قرب إلى الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، متحدثاً عن المبادئ التي يؤمن بها ويعتمدها، ضمن مبادئ أخرى في برنامج إصلاح وانفتاح يقوده عن اقتناع من موقعه في المملكة منذ تسلم ولاية عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.

كان الأمير يتحدث في لقاء مع عدد محدود من أهل الرأي ونجوم الإعلام في القاهرة، دعا إليه في بيته السفير أحمد قطان سفير السعودية لدى مصر، على هامش زيارة ولي العهد التي دامت ثلاثة أيام، وأنهت أعمالها أول من أمس، والتي كانت الزيارة الخارجية الأولى له ولياً للعهد.
وكأن السفير قطان، الذي صدر أمر ملكي قبل أيام بتعيينه وزيراً للدولة للشؤون الأفريقية، والذي دأب في الفترة الأخيرة على الدعوة إلى صالون «رياض النيل» في البيت، قد أراد أن يكون هذا اللقاء مع ولي العهد هو خاتمة الصالون التي سوف نظل نذكرها!
ورغم أن حديث الأمير معنا قد امتد لما يقترب من حدود الثلاث ساعات، ورغم أن الحديث تناول كل شيء تقريباً، سواء كان هذا الشيء يتصل بلقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، أو كان يتعلق بملفات الزيارة على اختلافها، أو كان يرتبط بالأوضاع داخل الدولة السعودية، أو كان يتقصى أبعاد علاقة الرياض بمحيطها وبالمجتمع الدولي، إلا أني توقفت بشكل خاص أمام حديثه المستفيض عن مبادئ ثلاثة يعتقد فيها، ويتوكأ عليها، ويتمسك بها، كلما كان المقام مقام حوار مع صاحب فكر متشدد يعارض الإصلاح، أو يقف في طريق الانفتاح، ويتخوف منهما، ويحشد الأدلة التي يستند إليها في موقفه وفي تخوفه على السواء!
وسوف تشعر وأنت تستعرض مبادئ الأمير محمد الثلاثة أنها ليست كلاماً إنشائياً، ولا هي كلام يُطلقه صاحبه خبط عشواء، أو كيفما اتفق، وإنما هو كلام وراءه منطق، وبين يديه فلسفة، وفي كل الأحوال هو كلام يقف على أرضية صلبة، تقول إن هذا الدين الإسلامي دين سمح في كل ركن فيه، وأنه ليس سمحاً وفقط، ولكنه دين لا حدود لسماحته، ولا لتيسيره كل الأمور على الناس!
أما المبدأ الأول في حوار ولي العهد مع كل فكر متشدد، فهو أن الأمر محل الخلاف بين الفقهاء ليس حراماً، لا لشيء إلا لأن الخلاف حوله معناه أنك كصاحب فكر من هذا النوع لك رأي، ولكنه ليس الرأي الوحيد حول الأمر ذاته، وإنما هناك رأي آخر في المقابل يرى عكس ما تراه، وكل رأي منهما عليه أدلة، ثم له بالضرورة مؤيدون ومقتنعون بجدواه، وما دام الأمر هكذا، فإننا إزاء أمر لا مجال للقطع بأنه حرام.
وبالطبع، فإن مبدأ كهذا لن يعجب كل أهل التشدد؛ قد يعجب بعضهم، وقد يستميل البعض الآخر، وقد يحرّض البعض الثالث على إعمال عقله، وقد يدفع البعض الرابع إلى أن يعيد التفكير في الشيء نفسه من جديد، ولكن سيبقى بعض أخير على تشدده، وعلى انغلاقه، وعلى تخوفه من كل انفتاح ومن أي إصلاح، وهذا طبيعي لأننا بشر، ولأن البشر سوف يبقى فيهم الإصلاحي المنفتح على الآخرين دون خوف، ودون توجس، وفيهم مَنْ هو على النقيض من ذلك على طول الخط.
ولكن، ليس من حقك إذا فضلت أن تبقى على تشددك، وإذا فضلت أن تظل نوافذك على الدنيا مغلقة، أن تفرض رأيك على غيرك؛ ليس هذا من حقك، ولتحتفظ برأيك المتشدد لنفسك، فلا تحاول أن تذهب به إلى سواك، ولا أن تُغري به إنساناً!
والمبدأ الثاني أن دفع الضرر الأكبر مُقدّم على الضرر الأصغر، أو شيء بهذا المعنى، وهي قاعدة فقهية متعارف عليها. وفي حالة برنامج الإصلاح في المملكة، فالذين يرون من أهل التشدد أن إتاحة الموسيقى، مثلاً، للجمهور فيها يمكن أن تقود إلى ضرر، قد يكونون على حق، ولكنه يبقى ضرراً أصغر بالتأكيد، قياساً على الضرر الأكبر الذي يمكن أن يصيب أفراداً من الجمهور ذاته إذا ما راحوا يبحثون عن الموسيقى نفسها في هذه العاصمة الأوروبية أو تلك من عواصم الدنيا، التي لا حدود للانفتاح، ولا ضوابط له، فيها!
وهذا كذلك منطق سوف يجد صدى لدى البعض القليل من أهل التشدد، وسوف يصادف قبولاً ولو على استحياء لدى البعض الآخر منهم، وهكذا... وهكذا... وسوف يبقى بالتأكيد بعض أخير لن يؤمن به، ولن ينفتح عليه، وهو حُر في اعتقاده هنا، غير أنه ليس من حقه أن يفرض ما يعتقده بهذا الشأن على خلق الله!
ليس من حقه، ولا يجوز له أن يحاول.. وإذا لم يلتزم، ثم راح يحاول، فمن الواجب على ولي الأمر أن يمنعه، وأن يتصدى له، وأن يقف مانعاً دون فرض الرأي المتشدد على عباد الله.
ويبقى مبدأ ثالث وأخير، هو أيضاً لا يزال يوضع في مقام القاعدة الفقهية التي تستند إلى أصل في الفقه، وإلى تجربة في صدر دولة الإسلام الأولى.
والمبدأ يقول إن الضرورات تبيح المحظورات، وليس أشهر في هذا السياق مما قرره عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين عطل حد السرقة ذات يوم، وكان ذلك في عام الرمادة الشهير، الذي اشتد فيه الجوع واستبد بمسلمين كثيرين. وعندما نتحدث عن عمر بن الخطاب، فعلينا أن نلتفت إلى أننا نتكلم عن الخليفة الراشد الثاني، الذي عايش الرسول عليه الصلاة والسلام، وعاش معه، وأخذ عنه، وسمع منه، وفهم، ثم استوعب مقاصد الإسلام العليا، وأدرك مراميها البعيدة!
لقد عطل تطبيق الحد لأن عقله هداه إلى أنه ليس من الدين في شيء، ولا من سماحة هذا الدين في شيء، أن تطبق عقوبة السارق - التي أقرها الشرع - على جائع مد يده وأخذ طعاماً يأكله. وكان الخليفة الثاني، وهو يبادر إلى ما فعل، يريد أن يكون قدوة للقادمين من بعده، ويرغب في إرساء قاعدة تظل تقول إن الإسلام دين فطرة، وأنه دين عقل، وأنه يخاطب هذا العقل في رأس كل مسلم، قبل أن يستقر في وجدانه.
هذه بشكل عام هي المبادئ الثلاثة بإيجاز، وهذا هو إطارها العام. وكما ترى، فإن الإطار الأعم الذي يحكمها هو الحديث الشريف الذي رووا فيه عن رسول الإسلام ما معناه أنه ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
ولأن المبادئ الثلاثة ينتظمها منطق متماسك، ولأن المنطق مُقنع لسامعه، فإن حصيلته من الحوار مع الذين يؤمنون بالفكر المتشدد في الشارع السعودي كانت كبيرة. والدليل الذي ساقه الأمير في حديثه أن هذا الفكر كان يمثل ستين في المائة تقريباً من قبل، فصار هذه الأيام في حدود عشرة في المائة، لتبقى التسعون في المائة موزعة بين نسبة وسطية، ونسبة أخرى ذات فكر تنويري متقدم على النسبة الأولى خطوة أو خطوات.
وأهم من المنطق المتماسك الذي تنتظم فيه المبادئ الثلاثة أنها بدت لنا ونحن نسمعه على نحو يقول إنها موجودة في عقل صاحبها وفق رؤية أشمل تضمها، بحيث تسبقها أشياء وتتلوها أشياء، ويمتد خيط رفيع ليربط أول الرؤية بآخرها، ماراً في وسطها بإحكام!