الجيلالي الغرباوي يصبح بين "أغلى" الرسامين العرب وفرنسا وحدها تخبىء له التحية التي تليق به 

رؤوف قبيسي
هل سمعت أيها القارىء الكريم بفنان اسمه الجيلالي الغرباوي؟

إن لم تكن قد سمعت به فأنت معذور، ولا جناح عليك. في زيارتي الأخيرة إلى بيروت سألت ثلاثة من الرسامين اللبنانيين المعروفين إذا كانوا يعرفون شيئاً عن هذا الفنان المغربي، ولم ألحظ أن أحداً منهم قد سمع باسمه من قبل! "لا تستغرب أنت في المغرب"، هذا ما يقوله المغاربة ساعة يتندّرون. لكنك ستستغرب من غير شك إذا أخبرتك بأن الغرباوي الذي أهمل ونُبذ سنوات طويلة هو الآن في فرنسا من بين "أغلى" الفنانين المغاربة والعرب، إن لم يكن "أغلاهم" على الإطلاق، وإذا اتفق وتساءلت، مثلما تساءلت أنا ذات مرة، عن السبب وراء هذا "التعتيم" الذي غلف حياته، فسوف أجيبك من الفور، بأن هذا الفنان المثير كان قد أهمل في بلده. نبذته المؤسسة الدينية ولم تعره السلطة اهتماماً، لأنه كان "شاذا"، غريب الأطوار، وفي رواية أخرى مثلياً، ولأنه كان يعاقر الخمر ويتعاطى المخدر، ولأنه حاول الانتحارغير مرة.

كان الغرباوي منطوياً، وعاش السنوات العشر الأخيرة من حياته كئيباً، إلى أن جاء يوم وجده المارة، جثة بلا حراك، على أحد مقاعد حديقة "شان دومارس" في باريس، وكان ذلك في العام 1971. لكن باريس "أم الفنون" ومهدها، تعرف كيف تحنو على أبنائها، وعلى من يهاجر إليها من أهل الفن، حنو الأم على طفلها الرضيع، حتى إذا وجدت عند أحد منهم وميضاً من عبقرية ولو بعد حين، كافأته خير مكافأة، وحفرت اسمه في سجلات الخالدين. ما أكبرالفارق بين فرنسا وبيننا في النظر إلى الفنون. وحدهم الفاسدون عندنا من أهل السياسة هم المبجلون. عليهم وحدهم نسبغ أفخم الألقاب، وعلى عتباتهم وحدها نلقي الطاعة، وإذا ما تعرض أحد منهم إلى كلمة نابية، أوقفنا عجلات الحياة في البلاد، وحرقنا ما تيسر بين أيدينا لنفديه بالدم والروح! أما الفنانون فنهملهم.

نعاملهم بسوء. نهجرهم ونهجّرهم، وإذا اتفق أن سطع نجم أحدهم في الخارج، نقرع الطبول لنستعيده، مرددين كالببغاء: "هذا هو ابننا الحبيب"! ألم تكن هذه حالنا مع فنان اسمه جبران خليل جبران، ومع عالم يدعى حسن كامل الصباح، ومع مؤرخ اسمه فيليب حتي، وكاتب معاصر اسمه رفيق المعلوف، وغيرهم من لبنانيين جابوا الآفاق وأبدعوا؟!

لندع هذا التحسر الذي قد يجرنا إلى ضروب مختلفة من الشتيمة، ولنعد إلى الجيلالي الغرباوي. ولد هذا الفنان سنة 1930 في بلدة جرف الملح، بالقرب من مدينة سيدي قاسم المغربية. تطرفه وشذوذه وألوانه وغرابة ريشته، حفرت في الذاكرة الجماعية عنه صورة مثيرة للجدل. كثيرون من النقاد الأوروبيين اعتبروه واحداً من أهم الفنانين الذي وضعوا أساس حركة الفن المعاصر في المغرب. "حبه الحارق للفن، وسلوكه المتهور دفعاه إلى سبر المجهول، وفتح طريقة في التصوير شكلت في العام 1952 النواة التي مهدت لظهور الفن التجريدي في المغرب". بهذه الكلمات تمهد الزميلة ياسمينا الفيلالي، كتابها القيم الذي أصدرته بالفرنسية عن هذا الفنان الراحل.

كان الغرباوي سيء السمعة بين بني قومه، في وقت لم يكن الفن ينال ما يستحق من تقدير. لكن ذلك لم يمنع الفنان "الشاذ" من الإبداع. قال عنه أحد النقاد إنه ولد وفيه نزعة حارقة للتعبير. جرب الكلام فلم تطاوعه المعاني، ثم لجأ إلى الريشة ليصب في اللوحة اقصى مشاعره. في البلدة التي ولد فيها يقول الذين جايلوه وعرفوه، إن موت أبويه ترك في نفسه أبلغ الأثر، وجعله يهيم مضطرباً، كالسمكة خارج الماء.

قليلون في المغرب والعالم العربي اهمتوا به، لكن الغرباوي نفسه لم يكن يعبأ بالناس، أو يهتم بالتقاليد على أي حال. عاش وحيداً ومات وحيداً. فرنسا الدائمة الوفاء للفن، كانت وحدها تخبىء له التحية التي تليق به، والتي بدأنا نراها في ما يكتب عنه ويُذاع.

قليلون من المصورين في الشرق من حفر في اللوحة ذاته المعقدة كما فعل الغرباوي، ولعل هذا ما يفسر ظاهرة نأي بني قومه عن أعماله التجريدية التي وجدوها غامضة، ورأوا فيها أثراً سوريالياً واضحاً. كان الغواش وسيلة مثالية لترجمة اللاوعي عند الغرباوي، وبينما رأى الفنان الفرنسي جيلبير ميشال أن الشكل الطاغي في أعماله ما هو إلا كتابات عربية ، كان رد الغرباوي أن المغرب، مغروز في أعماله أكثر من أي شيء آخر.

عاش الغرباوي طفولة قلق دائم. مات أبواه وهو دون العاشرة، فتولاه أحد أعمامه، وفي وقت لاحق أُدخل دار الأيتام. خلال دراسته الاعدادية أحس برغبة شديدة للتعبير، فحضر دروساً في التصوير في أكاديمية الفنون في فاس. أثارت مواهبه اهتمام معلميه، فحصل في العام 1950 على منحة للدراسة في "البوزار"، معهد الفنون الجميلة في باريس. في سنواته الباريسية الأولى يركز على الانطباعية والأجساد العارية، وفي زيارات متكررة لحي مونبرناس، يتعرف إلى مجموعة من فناني الطليعة العاملين بوحي فيلسوف الفن بيار غستاني، فيفتح له هذا التعارف فضاء انتمى إليه بحرية وجمالية مطلقة، جاعلاً منه آخر المطاف، أحد الفنانين القلائل، الذين تمكنوا من مزج الشرق والغرب في أعمالهم.

في العالم 1955 يعود الغرباوي إلى المغرب وقد تشبع بالثقافة الفنية الباريسية، ويضع أول لوحة تجريدية عرفها تاريخ الفن في المغرب. تعبر رسومه في تلك الفترة عن هيام بالخطوط الغرافية والشكل والفراغ، وإطلاق العنان لريشة تظهر الأشكال الأفقية والعمودية، وتلغي الطبقات السطحية الملساء، مع شطحات سوداء مرفوقة ببقع من الألوان الداكنة، المستمدة مباشرة من البيئة المغربية. يتوجه عند عودته إلى الرباط، محاولاً البحث عن ملاذ لنفسه المتعبة، فلا يلبث أن يعاوده الشعور بالوحدة، وتتملكه الكآبة، فيحاول الإنتحار قاطعاً رسغه بسكين. يُحمل إلى المستشفى ويخرج منها بعد حين، ويحاول التخلص من حياته مرة ثانية. بين 1966 و 1967 يرحل إلى إيطاليا ويمضي فيها قرابة سنة، متأملاً، مراقباً ومنتجاً، لكن الشوق إلى بلاده يشده مجدداً، فيعود إليها بعد عام، وقد أثقله المرض وأمضته الأوجاع.

لا تتوافر لدى الباحثين وثائق كافية عن السنوات العشر الأخيرة من حياة الغرباوي، وما هو متوافرعنه يشير إلى أنه تعرض لأزمات نفسية حادة، وأدخل المستشفى غير مرة، وفي إحدى المرات، عولج بالصدمات الكهربائية. مهما يكن، يبقى من الصعب تقدير الثراء الفني الذي قدمه الغرباوي، من دون قراءة متأنية لحياته وما اكتنفها من مؤثرات، ومراقبة دقيقة لرسومه الغريبة، ذلك لأنه لم يكن إنساناً عادياً. صحيح أن الأماكن التي اختلف إليها، وما ألم به من حوادث وخطوب، شكلت السمات العريضة في صنيعه، لكن هناك من غير شك، مؤثرات أخرى متضاربة في رسومه، لا يسع الناظر والناقد الدقيق، إلا أن يلحظها، ويردها إلى عوالم مختلفة، في الزمان والمكان.