سمير عطا الله

 عندما وصلنا إلى لندن للإقامة، كنا نتلهف إلى أمرين: الريف البريطاني والمسرح. وبعد تجربة قصيرة في الريف اقتنعنا أنه لأهله، فقفلنا عائدين إلى رائعة المدن. وسألنا هواة المسرح ممن سبقونا من أين نبدأ، فنصحت الأكثرية بمسرحية «مصيدة الفئران» لأغاثا كريستي، على أساس أنها تعرض منذ ثلاثين عاماً دون توقف. وقد تغير الكثيرون من الممثلين واهترأت الستائر والمقاعد، ولا تزال تشويقات كريستي تجتذب الناس.

قدمت كريستي إبراءات المسرحية إلى حفيدها ماتيو ريتشارد وهي تعتقد أنها ستدوم ثمانية أشهر على الأكثر. وقد سألني صديق مسافر إلى لندن أي مسرحية أنصحه أن يشاهدها، فأجبت آلياً: مصيدة الفئران. ثم تنبهت أن هذا هو الجواب الذي سمعته قبل أربعين عاماً على وجه الضبط. وعلى وجه الضبط لقد مضى 66 عاماً على تلك الهدية التي قدمتها أغاثا كريستي إلى حفيدها الذي لا تعرف لمن أورثها بدوره.
وفي المرحلة الأولى من المسرحية، كانت بريطانيا لا تزال تتعامل «بالشلن» كوحدة شرائية. وهي الآن تصدر الجنيهين في قطعة معدنية واحدة. ولا أعرف ما هي أجرة الدخول إلى المسرح. وفي العام 1978 اشترينا منزلاً في ضاحية بوشي هيت، مع حديقة ومسبح، بـ35 ألف جنيه مقسطة على ربع قرن.
وأخذت الحلقات الصحافية العربية في لندن تتحدث أولاً عن منزل. ثم عن فيلا. ثم «عم يشبه القصر». وكان المنزل نفسه صغيراً من غرفتين صغيرتين وغرفة معيشة نصفها مطبخ. ثم تحول من راو إلى راوٍ إلى «أربع خمس غرف» و«ثلاث أربع حمامات» بدل حمامه الواحد.
وكان أكثر المغردين تغريداً عن البيت، أغنى الصحافيين العرب في لندن. وقال لي ذات مرة: «شو؟ عم يخبرونا عندك تماثيل بالجنينة». وفي هذه الأثناء كنا قد وضعنا الفيلا للبيع وسئمنا عيون الصحافيين اللبنانيين وألسنتهم ومخيلاتهم التي لا تشبه إلا مرض الملاريا والهواء الأصفر.
وخرجنا من المنزل الذي لا تبلغ مساحته 100 متر مربع، وتركنا «التماثيل» في الجنينة، لكن تغريدات الصحافيين لم تتركنا. وخصوصاً تغريدات أغناهم وأشهرهم. وكنت أفهم أن يلقي التهم على الأثرياء لابتزازهم، لكنني لم أفهم ما هي خطيئتي كي يحمّل ضميره التهم التي ألصقها بي. وقد مضى على ذلك زمن طويل، وهوت تماثيل كثيرة، لكنني لا أنسى. ليس لأنني غير قادر على المسامحة، بل لأن بعض التجني لا يحل عليه غفران ولا نسيان.