محمد المزيني

 لم تستطع قطر حتى يومنا هذا التخلص من موروثها التاريخي العائد إلى الثلث الأخير من القرن الـ19، يوم كانت تحت الحماية الاسمية لـ«آل خليفة» (البحرين)، يوم دخلت قوة بحرية بحرينية للسيطرة عليها تماماً، لولا تدخل القوات البريطانية وفض هذه المواجهة باعترافهم التاريخي بمحمد بن ثاني حاكما لقطر، ومن ثم يوقع عبدالله بن قاسم على الهدنة البحرية مع بريطانيا.

ظلت هذه الذاكرة التاريخية المسكونة بالمخاوف والقلق تراود القطريين حتى يومنا هذا، وخاصة من أكبر جاراتها المملكة العربية السعودية. لقد تزامن هذا الاستشعار مع بداية تشكلها دولة مستقلة عرّتها من كل مواثيق الحمايات القديمة التي كانت تعول عليها لضمان أمنها واستقرارها، إلا أنها في سنواتها الأخيرة سيطرت عليها هذه المخاوف حد الوساوس القهرية، لاسيما بعد تفجّر عيون النفط والغاز بكميات هائلة ضاعفت من حدة هذه الوساوس إلى أن اتخذت شكلاً قهرياً عميقاً ضارباً في قلوب حكام قطر قبل عقولهم. لذلك (وهذا من حقها)، بدأت تفكراً أولاً بتعزيز أمنها وحماية حدودها المكشوفة، ثم سارعت بالبحث عن حلفاء جدد، إذ لم يكن يعوزوها «الاستجداء» لتلبية أي دولة كبرى طلبها، فقطر لم تعد دولة ساحلية تعتمد على صيد السمك واستخراج اللؤلؤ، بل دولة لديها مخزون عظيم من الغاز. هذا الوسواس القهري الذي انتاب الشباب المنقلبون على سلطة الأبوة القديمة، أدخلها عنوة «جب» المخاوف التاريخية التي خيلت لأذهانهم الملتبسة بعقدة الذنب أنهم محاطون بأعداء، وأعينهم لا تبرح رغما عنهم الجارة الكبيرة (المملكة العربية السعودية)، فانتابها الفزع من كل تحركات الدولة الجارة حتى بلغ بهم الوهم من شدة الجزع أنهم «يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم»، ما جعلهم كمن يحارب طواحين الهواء. حقيقة قد نلتمس لهم العذر لسبب واحد، هو أن استشعارهم خطيئة الانقلاب بسحب البساط من الأب، الذي بات كابوسا يُطيّر النوم من رؤوسهم، قد ضاعف من مخاوف الماضي وزاد من وتيرة الترقب. قطر المنقلبة على ذاتها المذعورة المستريبة من جاراتها تدرك جيدا أنها لن تستطيع استشعار الراحة والسكينة والاستقرار أمام دول الخليج، خصوصا السعودية الأكبر مساحة والأعمق تجربة والأرسخ وجوداً تاريخياً والأوضح رؤية، ما لم تغير من نمطية تفكيرها السلبي تجاه جاراتها وشقيقاتها.

كم هو مزعج جداً حد الهذيان استشعار الصغار أمام الآخرين، وكم هو مؤذ تماما تأليب الآخرين من الأباعد عرقاً ولوناً وملةً على من تربطك بهم وشائج الدم، وما هذه السياسة إلا جزء من حالة الفصام النكد الذي تعاني منه السياسة القطرية بحثا عن حماة لها، فهي في البداية لم تكن تريد أن تقول صراحة أن السعودية تخطط لابتلاعنا، فذهبت جهلاً إلى ما هو أدهى وأمر، لتضع يدها في أيدي كل الأنظمة والجماعات المناوئة للسعودية، للعمل وفق أي أجندة تفرضها هذه الأنظمة والجماعات، على طريقة الهروب العكسي الذي ورطها في انقلابات الربيع العربي الذي اقتحمته بأموالها بما يشبه الخدر أو التنويم المغناطيسي الذي أخذها لخوض لعبة دموية أكبر منها بكثير، ظنا منها أنها بذلك ستكتف من شرور الأعداء المتوهمين، وبما أننا متأكدون تماما، كما هو صائر في قناتها الجزيرة، من أن قطر لا تصنع سياستها بنفسها، كما أنها لا تصوغ أخبارها بنفسها، فليس أمام دول الخليج إلا الأخذ على يديها، وانتزاعها من براثن الأعداء المتربصون بدول الخليج، المنتفعون من هذا الوسواس القهري الذي تعاني منه.

لقد رأيناهم كيف استغلوا حالة سياسة قطر المرضية، ورموا بثقلهم كاملا على أكثر من صورة وشكل، فمرات داعمين وأخرى حماة تحت أكثر من مسمى، كالتعاون الأمني وتبادل الخبرات وبرامج أخرى متنوعة، ومع ذلك كله لن تنعم قطر بالراحة مع هذه الحماية المصطنعة بأموال ضخمة تنثرها على كل الناعقين باسم قطر ضد دول الخليج، وإن اقتصرت لغتهم على السعودية والإمارات والبحرين، فهي تنضح بالعداوة والمكر لكل مكون خليجي، ومع هذا كله لن تدوم طويلا وهي تصفق لها، فهي مثلها مثل أي بضاعة تباع وتشترى، قابلة للعرض والطلب لمن يدفع أكثر، كما أنها معرضة أيضا للكساد في أي وقت. ستعود قطر بخفي حنين، فلاهي كسبت معركتها المتوهمة مع جاراتها، ولا هي اكتفت بالحماة المستأجرين، حينها سيفرض عليها منطق العقل والحكمة العود إلى رشدها وتصطف مع شقيقتها. كم نتمنى ألا يتأخر ذلك كثيرا حتى لا تتلبد السحب السود القاتمة في سمائها وتهطل فوق راسها حجارة من سجيل، ولنا في التاريخ دروسا وعبرة، ليت قطر تجد الوقت الكافي للاستخلاص هذه الحكمة قبل أن تقع الفأس بالرأس.