أحمد الجمال 

كثيرًا ما يسرى على الكتابة ما سرى على العيد الذى بعده لا ينفتل كعك.. فإذا انقضى الحدث وابتعدت تفاصيله وتمت معالجته من أكثر من زاوية وبأكثر من قلم لم يعد هناك أمل فى أن يلتفت إليه أحد مجددًا، حتى وإن صيغ بأحرف متوهجة وزينت أطرافه بالشهى اللذيذ من المحسنات، أو خلطت مكوناته بأطيب البهارات.. ومع ذلك أجدنى مغامرًا بالكتابة عن لقاء الساعتين ونصف الساعة مع ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، وقد حضرته من بدايته إلى نهايته، وكنت تقريبًا مع الدكتور أسامة الغزالى حرب آخر المتحدثين، وقبل أن أستطرد فيما أود كتابته أشير إلى أمر أراه مزعجًا ومقلقًا، وهو أن بعضًا من الزملاء الإعلاميين والصحفيين يفتقدون إلى ما يمكن أن أسميه اللياقة السلوكية مع زملائهم ومع المصدر نفسه، فهم يفقدونها عندما تستبد بهم شهوة التدافع للبقاء فى مقدمة الصف، وشبق الكلام حتى وإن جاء كلامهم ساكتًا كما يصف إخوتنا السودانيون الحديث الخالى من المضمون!، وتراهم وقد تجمدت حواس الذوق لديهم، فلا يستجيبون لهمهمة الآخرين المعترضين على مسلكهم، بل ولا يلتفتون إلى صاحب الدار المستضيفة، وهو ينهض من مقعده مرة بعد مرة لتنظيم النقاش وإعطاء الفرصة لمن لم يتحدث، والأنكى أن يأتى أحدهم متأخرًا عن بداية اللقاء ويقرر أن يقتحم الحوار، مصادرًا من التزموا بالموعد والتزموا بقواعد السلوك المحترم، وتراه وقد علا صوته مزمجرًا كوحش يريد خطف الفريسة ممن سبقه وبذل جهده فى صيدها!!.. ما علينا!

إن ما توقفت عنده طويلًا فى حديث ولى العهد هو أولًا، قدرته الفذة على التعبير عن فهمه الدقيق لكل التفاصيل المتصلة بواقع بلاده ومستقبلها، ناهيك عن علاقة حاضرها بماضيها، وإذا تطلب الأمر عرض التفاصيل بدقة وبالأرقام والسيناريوهات كان الرجل جاهزًا.. ومع القدرة كانت تجليات القوة عند الحديث عن مجابهة التحديات ومقارعة المخاوف، وكانت عبارة «من يتولى المسئولية لا يخاف ولا يتردد، وإن خاف أو تردد عليه أن يترك ويذهب ليستمتع»!

ثم إن صميم الأمر عندى هو أن مصر، الشعب والمؤسسات وأيضًا النخب، خاصة المثقفين وأهل السياسة والمال، ما لم تدرك بكل مكوناتها أن ثمة متغيرًا كيفيًا عميقًا حفر مجراه أو دارت عجلته فى المملكة العربية السعودية، وأنه يتعين أن تواكب مصر هذا المتغير الكيفى الإيجابي، بل فائق الإيجابية، وإلا ستتحول وتائر الإيقاعات وتسارعها من فروق بسيطة تقاس بالخطوات إلى متواليات عددية وربما هندسية، وإذا حدث لا قدر الله ولم يتوافر فى التركيبة المصرية ككل ما يتم تحقيقه للتركيبة السعودية فإن السيناريوهات تحتمل بعض البدائل وخيمة الأثر على المحروسة، وأعترف بأن المعنى قد يبدو غامضًا إلى حد ما، وربما أجد فرصة مقبلة للتبسيط والتوضيح.

نحن لسنا بصدد ما تم التركيز عليه من الأساتذة الذين حضروا وكتبوا، وهو مشكلات الاقتصاد والسياسة والعلاقات الإقليمية، ومشكلة قطر والقضية الفلسطينية وفقط، وكيف أن لدى ولى العهد رؤى شاملة مكتملة فى هذه الجوانب وإنما نحن بصدد تغيير جذرى فى البنية الثقافية والفكرية والاجتماعية للمملكة.

وأستأذن القارئ الكريم فى أن يتأمل معى ما قاله ولى العهد السعودى بإيقاع سريع، ربما لم يتمكن البعض من متابعته أو ربما لم يكن البعض على مستوى فهمه، لأنه من القضايا التى لا يهتم بها ويتعمق فيها أصحاب برامج الفضائيات! إذ قال الرجل ما مضمونه، «إن الكرة الأرضية الآن من أستراليا إلى إسكندنافيا، ومن اليابان وأقصى الشرق إلى الأمريكتين، يعنى كل مكان لا يخلو من مركز إسلامى ومن ترجمات للقرآن والحديث وكتب العقيدة والفقه.. الأمر الذى يعنى أن ما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم ببلغوا عنى ولو آية قد تحقق وصار كل من فى الأرض متاحا له أن يعرف الإسلام»! وعليه فمن الوارد أن نفهم أن الدعوة تمت ولا مجال لأحد أن يزعم لنفسه القوامة على البشرية فى هذا الشأن، وفى معرض حديثه عن كيفية انحسار ما قد تصح تسميته بالمد المحافظ المتعنت فى مجال الفهم الفقهى للدين، أشار إلى المرتكزات التى ارتكز عليها فى حواره معهم، معتمدًا على جوهر علم أصول الفقه وقواعده، التى منها الضرورات تبيح المحظورات، ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وبناء عليه كان الجديد فى مسائل الاختلاط بين الجنسين، وإقامة الحفلات الترفيهية، وتعظيم دور المرأة فى الحياة العامة والاجتماعية، والتعامل مع غير المسلمين، واحترام التنوع المذهبى بكل درجاته!

وعندما تحدثت عن موروثنا التاريخى الذى أفادنا بأن الدولة السعودية فى مرحلتها الأولى قامت وتماسكت على محورين هما آل الشيخ وآل سعود.. يعنى الإمامة الدينية، والقيادة السياسية، وعليه فإن المراقب وهو يراقب ما أجراه ولى العهد من إجراءات تجاه المؤسسة الفقهية المحافظة، وتجاه طبقة عليا ضمت أمراء من صميم الأسرة يسأل ماذا تبقى لكى تتماسك الدولة من حوله؟، وكان الجواب موجودًا ضمن مجمل حديث ولى العهد، وهو أن التماسك صار من حول المؤسسة فى ظل القانون وقواعد العدالة لكل المواطنين.

ذلك باختصار قد يبدو مدخلًا ما أتوقف عنده فى فهمى لما يحدث فى المملكة الآن، وأقر بأننى قلق على المحروسة، ما لم يتوافر فيها الجمع بين الفهم الدقيق للواقع والتصور الشامل لفلسفة حركة المجتمع مستقبليًا وبين صنع القرار واتخاذه.