سمير عطا الله

قبل أيام من غيابها صدر للروائية إميلي نصر الله كتاب عن فصول من حياتها موشى برسوم للراحل جان مشعلاني، عنوانه «الزمن الجميل». أي الزمن الماضي. ومن علامات الجمال في ذلك الماضي كان وجه إميلي نصر الله وقلبها وقلمها وصورة الأم في حياتها.

نعاها الرئيس ميشال عون بأنها «أم الرواية اللبنانية». وهذا أبرز وأدق أوصافها، لكنها كانت أيضاً أماً للأدباء المعوزين، وكانت أماً حانية لإخوتها المهاجرين، وكانت أماً لأيتام الحرب، وكانت أماً للفلاحين في قريتها، وكانت أماً للمهاجرين. لم أعرفها إلاّ أماً.

المرأة الوحيدة التي عملت في الصحافة كل هذه السنين ولم تكن جزءاً من الحياة الصحافية. لم نعرفها في مجتمعنا. لم تشاركنا في رحلاتنا. لم نشاهدها في مقاهينا. لم نسمعها في ثرثراتنا ونميمتنا ودسائسنا وانحداراتنا المتعددة.

تجاورنا معاً في «دار الصيّاد» حيث صالة التحرير مفتوحة. وكنا نسمع صوتها عندما نلقي تحية الوصول ثم تحية الاستئذان. وكان حضورها – حين تحضر – يفرض على الجميع الانتباه إلى التهذيب. لا خروج على الآداب حتى همساً.

انصرفت إميلي نصر الله إلى الرواية كما انصرفت قبلاً إلى الصحافة، إتقاناً وغزارة واجتهاداً. وساعدها يسر العائلة الزوجية على التفرغ إلى الأمومتين: الأبناء، والرواية. وإليهما كانت تبذل الوقت والعون في حالات اجتماعية كثيرة. ولم أعرف ذلك منها في أي وقت وإنما من المعنيين الأوفياء. وكنت عندما أشكرها على ذلك، تبقى صامتة لكي لا تجرح كرامة المجروحين، أو تجرح تواضعها ورهافتها وعمقها الإنساني.

في الأدب ظلت إميلي نصر الله في الإطار الكلاسيكي، عن شغف وعن عمد. كما ظلت ضمن الموضوع اللبناني من وطن وغربة وهجرة ولا عودة. ولم تشأ مرة تجريب الأسلوب الحداثي لأنه لم يكن ليعبّر عن مشاعرها وقضاياها. فلا عشق ولا تلميحات تستقطب الشهرة والجدل. أمٌّ على مدى الزمان.

بسبب الإطار اللبناني المحض، لم تُعرف عربياً على نطاق واسع إلا في أوساط الأدباء أنفسهم. ولم تدخل في سباق. ولم تؤسس لنفسها دائرة علاقات عامة وجناح استقبال. ظلت وحيدة على درب عالمها البسيط، وتركت للآخرين أن يطلّوا عليه. وكان لأعمالها موقع وأثر في اللغات التي تُرجمت إليها، وخصوصاً، الألمانية واللغات الاسكندنافية، حيث وجد قراء الشمال تجاوباً مع نصاعة وبراءة الرواية والعلاقات البشرية.

لم نكن ننتظر ما كتبت «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» في وداع صاحبة «طيور أيلول» لكي ندرك أهمية من فقدت المدرسة الروائية في لبنان. لكنها في أي حال، شهادة في تلك الفتاة التي غادرت قريتها إلى بيروت قبل سبعين عاماً، ولم تغادرها القرية إلى مكان.