فاتنة الدجاني

 إدارة الرئيس دونالد ترامب في منتهى «الإنسانية»! وهذه الأيام، تولي اهتماماً خاصاً بتأمين دعم مالي، وإن كان من جيب دول أخرى، لمشاريع «حيوية» تُنقذ غزة من وضعها المأسوي.

بالتأكيد ليس «حُسن أخلاق» أو «صحوة متأخرة» إزاء الفلسطينيين. فهذه «الإنسانية» لدى الإدارة الأميركية، لا تعكسها سياساتها الداخلية، من «أوباما كير» إلى «الحالمين»، كما سياساتها الخارجية حين ترفع شعار «أميركا أولاً»، وتؤجج التوتر الدولي، وتستدعي الحرب الباردة، وشبح حرب نووية.

حشدت واشنطن لمؤتمر «إنقاذ غزة» بحضور واسع. في ذلك المؤتمر، حضر الألم والشك في النيات، وغاب الفلسطيني. ومن دواعي الاستغراب، بل السخرية، أن يغيب أيضاً التطرق إلى مسؤولية الحصار الإسرائيلي عن تدهور الوضع الإنساني في القطاع.

والمؤتمر غير منزّه عما يُطرح من تسويات تلوح في الأفق، وتنتهي بدويلة مسخ في غزة تجثم لسنوات طويلة على إمكانات الحل العادل والشامل.

لا يختلف تسويق «صفقة» ترامب عن المبادرات الأميركية منذ اتفاقَي كمب ديفيد. وربما هي أكثر من مصادفة أن يكون تاريخ انعقاد مؤتمر واشنطن في الشهر ذاته الذي طرح فيه وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز مبادرته الاقتصادية لإقامة بنية تحتية لتنفيذ مشروع الرئيس السابق رونالد ريغان (4 آذار - مارس 1988) الذي كان يسعى إلى تطبيق نظرية «التقاسم الوظيفي» الإسرائيلية، بإعادة الكتلة السكانية الفلسطينية إلى الأردن في إطار كونفيديرالية. ماتت المبادرة ودُفن المشروع مرجوماً بحجارة الانتفاضة الأولى.

أوروبا أيضاً جرّبت دعم بنية تحتية اقتصادية لاتفاق أوسلو، فواجهت تآمراً أميركياً بالتعاون مع آرييل شارون لهدرها. اجتاح الضفة وحاصر الرئيس ياسر عرفات، ثم كان الانسحاب الأحادي الإسرائيلي من غزة وفرض الحصار على القطاع.

إدارة جورج بوش الابن مضت في تكريس بنية أمنية أساساً، رافقها دعم مشاريع غير إنتاجية عبر المؤسسات غير الحكومية، أودت إلى المزيد من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. وزاد الطين بلة اتفاق باريس الذي حرم الفلسطينيين من بناء اقتصاد ذاتي هادف إلى التحرر من الاحتلال.

أمّا مرحلة الرئيس باراك أوباما، فمضت بسياسة تحسين الأحوال، عبر مساعدات نفذتها مؤسسة «يو إس إيد» التي تحصل على دعم مالي مباشر من الكونغرس. وهي أيضاً كانت ملتزمة الحصول على موافقة الحكم العسكري الإسرائيلي، وانتهت مشاريعها إلى إقامة بنية مواصلات تحتية تخدم مخططات الاستيطان.

مؤتمر واشنطن لن يختلف كثيراً، فهو لا يتناسى التمثيل السياسي الفلسطيني فقط، مثل مبادرات الرؤساء السابقين، بل أيضاً التناقض الجوهري وهو الاحتلال، ويحاول تمرير مشاريع بنية تحتية مغلّفة بالشفقة على الأحوال «الإنسانية» المتردية في قطاع غزة، ثم فصل قضيتها عمداً عن بقية المستقبل الفلسطيني في الضفة، متساوقاً بذلك مع المشروع الإسرائيلي الأصلي.

ربما يكون الجديد هنا هو البعد الإقليمي وفرض المشاركة على أطراف عربية، ما يولّد الانطباع بتجاوبها مع الحل الإقليمي. وكما كان صعباً على الدول العربية إعلان رفضها المبادرات الأميركية السابقة، فإن الوضع الآن ليس مختلفاً. لكن ما تسرّب من معلومات عن المؤتمر يشير إلى تناقضات إقليمية جوهرية بين المشاركين بما يكفي للقول بفشله، بالتالي فشل تسويق «صفقة القرن»، ما دفع الإدارة الأميركية إلى تسريب أخبار عن تأجيل الإعلان عنها عاماً أو عامين.

هذا التأجيل هو أوضح إشارة إلى أن لا حل من دون الفلسطينيين، وأن مقاطعتهم واشنطن وتحركهم الدولي هما الخيار الصحيح. أما الحديث عن البحث عن قيادة بديلة والتهيئة الاقتصادية للمرحلة المقبلة، فهذا جربته إدارات سابقة وثبُت فشله. وليس من قيمة سياسية تُذكر للقول إن تأجيل «الصفقة» كان في انتظار تغيير القيادة الفلسطينية. فمرة أخرى، لن يأتي الزمان، مهما طال، الذي ترضى فيه قيادة فلسطينية أو عربية بأن تُسجل على نفسها التنازل عن القدس أو عن الحق العربي والفلسطيني. فكيف إن كانت الحلول المطروحة تتعلق بغزة حيث الوجود المسلح لحركة «حماس» وغيرها؟ قد يكون مبكراً استنتاج أن الحل الإقليمي سقط بصمود غزة وبالانتفاضة السياسية للسلطة، لكن بالتأكيد هذا هو الخيار السليم.