عبدالله بشارة 

الدنيا تدور، وما كان صالحاً بالأمس لا ينفع اليوم، وللتاريخ مسار خاص متنوع ومتقلب، ليس فيه ضمان لأحد ولا يقبل الاستدامة لنظام، ولا حصانة للفلسفات والتوجهات الفكرية، منذ الحضارة اليونانية مروراً بمختلف تعرجات التاريخ شهدت التجارب الإنسانية الكثير من الاجتهادات الفكرية والسياسية والفلسفية، لم يبق منها إلا جانب تستفيد منه التجارب اللاحقة بالحد الذي تراه مناسباً ومنسجماً مع أطروحاتها.

من نظام بطولات الاستبداد والشهامة العسكرية، إلى صيغة الكنيسة وتحالفها مع الإقطاع، إلى الحرب الدينية التي استمرت ثلاثين عاما، كلها تطرح فصولاً في حياة الإنسان تتميز بالتبدلات والتغيير في فكر البشر وصلت في مداها إلى فصل السياسة عن السلطة الدينية مع بروز قوي للدولة الوطنية، مبعثه ترابط الالتزام بين المواطن وترابه.
هذه حالة العالم ولن تتوقف التموجات، وما نقرأ عن الدولة العروبية التي جاء طغيانها مع الثورة الناصرية في منتصف الخمسينيات تنطبق عليه تبدلات التاريخ وتعرجات الفلسفات وطغيان الأولويات.
تبنى حزب البعث وآخرون من المفكرين من المدارس الشامية الدولة القومية، واستنجد بها جمال عبدالناصر ليغرس فلسفة حكمه، ويعمق نظامه في تماثل مع التجربة الأوروبية في بناء الدولة القومية التي حملت معها الإفراط في الشحن القومي، ومارست تصغيرها لشأن الدولة الوطنية العربية، التي ارتكزت على قاعدة تاريخية من الشرعية وعلى ولاء شعبي وطني متفاعل مع هويتها متمسك بالتراث وباستمرار التكاتف الأسري والتداخل الاجتماعي والتلقائي بين أفراد المجتمع من دون حواجز مع مواصلة نهج الأبواب المفتوحة.
كان مشروع دولة الوحدة العروبية صرخة في وجه مظالم الاستعمار، وتحفيزا لإزالته وملاحقته، آلياته الشحن القومي العروبي وشحذ الهمة الجماهيرية العروبية وتهيئتها لنزاعات قادمة مع من يعترض، سواء من دول مستعمرة أو من سكان البيت العربي.
ومن يقرأ أحداث الخمسينيات والستينيات يقف مستغرباً من هول المواجهات وتنوعها بين قيادات الدولة الوطنية وبين المنتمين لفلسفة الأمة ودولتها الواحدة، بما فيها من توظيف لأجهزة المخابرات لتقويض أعمدة الدولة الوطنية التي لا تنضم إلى ركب العروبة.
والمشكلة في الدولة العروبية الموحّدة ليست في آليات صناعتها فقط، وإنما في مكوناتها، فتظل في شك دائم من الغرباء وتتخوف من الأقليات، وتتحفظ على الحريات، وتضيق على أصحاب الطوائف، وتعظم الاستبداد وتلغي آدمية الإنسان، وأكثر من ذلك، تشيّد أسواراً بين عالم العرب وبين قيادة النهضة الأوروبية ومراكز الانفتاح والاستنارة، فلا ترتاح للحرية الاجتماعية، ولا تعترف بتدوير السلطة وتمارس الاستقصاء والملاحقة.
وهي تجربة محكومة بالفشل، فلا يمكن إخضاع أمة تتشكل من 22 دولة وشعبا بتجارب مختلفة ولها إيقاعات متباينة في السلوك السياسي والاجتماعي وتحشرها في مجرة فضائية واحدة تسترشد بمشروع وحدوي أحلامي.
فلا تتواءم مع شروط المنطق واستغلها الطامحون من الأحزاب العربية المتأثرة بالمدرسة الوحدوية الشامية، مثل حزب البعث الذي جند كل تنظيراته ليتسلل إلى الدولة الكويتية بمنطق هزال بأن التراب العربي ملك للأمة العربية الواحدة التي لا تعترف بالحدود في إلغاء متعمد وغليظ للدولة الكويتية، واستخفاف بحدودها والخروج بأطروحة البوابة الشرقية للأمة وحراستها من جيش صدام.
ولا أعتقد بأن الآخرين من العرب استوعبوا حجم معاناة الكويت من تلك التنظيرات العروبية التي وظفها صدام صدام حسين ليبتلع الكويت عبر مانشيتات خادعة، وعندما فشل بالحيلة جاء بالسلاح.
وخطورة ما جاءت به المدرسة الشامية من تجاوزات على الدولة الوطنية أنها جمعت لها الأنصار من الحالمين بالخير، والموعودين بالمسرات، ومن فاقدي الأمل.
كشفت تجربة الكويت مع الغزو عجز القيادات الحزبية العربية في تقييم قوة الدولة الوطنية الخليجية ومشاعر مواطنيها وحرصهم على نظامهم السياسي والشرعي، ولعل شريط قمة القاهرة في أغسطس 1990 يكشف هذا الجهل لدى بعض القيادات العربية التي تعاملت مع الغزو بخفة لا تليق بذلك الحدث.

نحن الآن في زمن دولة المواطنة، فيها حرية ومساواة وسيادة القانون وشفافية وقضاء مستقل ومحاسبة، في إطار وحدة وطنية ترفض التفرقة والفئوية، وتؤمن بالعدالة وحق الكفاءة في التألق مع الترابط مع المسارات الإنسانية.
انتهت دولة الأحلام مع غزو البعث العراقي لدولة الكويت، وهو عمل شنيع لا تقدم عليه إلا مجموعات من عصابات تحكمت بغفلة تاريخية في بغداد.
نحن في زمن آخر يعلو فيه مقام الوطن بكل تجلياته في ترابط عربي جامع وعملي مستند إلى عطاء الدولة الوطنية، ومحترماً مكوناتها مع الاستفادة من التطورات الإنسانية العالمية وحق الاقتباس من تجارب التنوير.
أكتب هذا المقال بوحي من مقال سجَّله د. سليمان عبدالمنعم أستاذ القانون في جامعة الإسكندرية وصدر في جريدة الحياة في العاشر من مارس الماضي.