سمير عطا الله

 أوائل القرن الماضي اشتدت رغبة الناس في التعلم، وكان عدد المدارس في لبنان قليلاً. ولا أدري من كان العبقري الذي اكتشف بديلاً لذلك. فوسط الفقر والقلّة والتخلّف، كانت المدارس الرسمية نادرة. وحتى العثور على منزل يتسع لعدد معيّن من التلاميذ كان صعباً. وما دام جميع أهل القرية معوزين، فيستحيل التضافر لبناء مكان مناسب.

ثمة عبقري خيّر خطر له أن أقرب الحلول هو الإفادة من شجرة السنديان: وارفة، عظيمة، خضراء طوال العام، وفي إمكانها أن تظلل عدداً كافياً من التلاميذ الصغار ومعهم معلمهم، ولا حاجة إلى لوح أسود (سبورة) ولا إلى طاولات، ولا إلى مقاعد. اقتعدوا الأرض واتركوا الفيء لشجر السنديان.
هكذا كان في كل قرية تقريباً مدرّسٌ وسنديانة ورعيل، أصبح فيما بعد من أساتذة لبنان وكبار أدبائه، أو من أصحاب المدارس الكبرى مثل الناقد مارون عبود (أبو محمد) الذي أصبح صاحب مدرسة عالمية. وذهبت مدرسة «تحت السنديانة» مثلاً على الجد، وأيضاً على تواضع نسبة التعلّم لمن لم يستطع إكمال دروسه فيما بعد.
غاب جميع جيل «تحت السنديانة» في قريتي، وبقيت هي وساحتها الرملية الصغيرة، وبقيت جذورها وجذوعها وأغصانها وأوراقها الخضراء. وبقيت تمتد في الأرض وتسمق في العلو. ولم يعد يأتيها المعلمون، ولا الطلاب، ولا أصحاب الذكريات.
ومنذ سنوات وأنا أسأل كل من يمكن أن يعرف عن عمر السنديانة، ولا ألقى جواباً. البعض يقول إن حجمها يوحي بثلاثمائة سنة. والبعض الآخر يقول أقل، والبعض يجزم بأن في شرايينها مائتي سنة بكل تأكيد.
كانت الزميلة «السفير» تُصدر كل شهر كتاباً مع العدد اليومي على طريقة «كتاب الهلال». وكنت أجمع بعض هذه الكتب عندما يتسنى لي. وقبل أيام عدت إليها وعثرت بينها على كتاب عن شاعر الهند روبندرونات طاغور في العالم العربي، لأن مرحلة نضاله من أجل الاستقلال تلاقت مع مراحلنا. وكان كلما زار عاصمة عربية تخرج الناس إلى سماعه ولو لم تفهم شعره. وقلّده، أو تأثر به، شعراء عرب كثيرون. وتُرجمت أعماله جميعاً وظلت تُترجم إلى أن ذبلت آداب الاستقلال وذابت مرحلة الشعر.
بكل متعة عدت إلى قراءة طاغور... كلمة كلمة. ومع أن ورق الجرائد يبهت مع الوقت، فقد بقيت كلماته مثل ذهب يلمع، ومثل الذهب يرنّ. وفي مقدمة الكتاب كيف أسس طاغور مدرسته الشهيرة التي لا تزال مزدهرة إلى اليوم. وقد حرص على أن تكون في الطبيعة معظم الفصول؛ إلا الشتاء. والباقي تحت السنديان.