محمد الرميحي

 الخط الأحمر هو أن يندلع صراع واسع بين الولايات المتحدة وبين روسيا الاتحادية، قد تستخدم فيه أسلحة غير تقليدية. البعض قد يندهش من هذا الاستهلال المخيف، إلا أن المتابع لأحداث التاريخ يعرف أنه في السياسة، خصوصاً السياسة الدولية، عليك أن تتوقع غير المتوقع. وزير الدفاع الأميركي الأسبق وليم بيري حذر في كتابه «رحلة على الحافة النووية»، الذي صدر في يوليو (تموز) 2016، من هذا الاحتمال. وأخذاً بخلفية السيد بيري، وهو من رجال الغرفة الخلفية في التحضير الطويل للسباق النووي، فهو يعرف عما يتكلم، يبدو من قراءة الأحداث الأخيرة أن هذا التحذير يقترب من التحقق، متى وأين يكون الصاعق؟ ذلك غير محدد، وقد يبدأ بالصدفة أو بالعناد.

شخصيتان على جانبي الصراع في المسرح الدولي، في خلفيتهما السياسية وفي مواقفهما العامة، توجد بذور ما يمكن أن يؤدي إلى ذلك الصراع، الشخصية الأولى هي دونالد ترمب، والثانية فلاديمير بوتين. هناك الكثير عند قراءة هاتين الشخصيتين مما ينبئ بأن الأمور الأكثر احتمالاً تتجه إلى صراع خلفيته الفهم الخاطئ تماماً وغير الموضوعي كل للآخر!
ترمب في تحليل كثيرين، حتى في الإعلام والأكاديمية الأميركية، رئيس اخترق كل (المعايير) المتوقعة والمتفق عليها من رئيس أميركي، ولكن المعايير تلك التي يعجب البعض باختراقها ليست (قوانين) واجبة النفاذ، هي معايير قريبة إلى التقاليد وضعتها النخبة الأميركية الحاكمة على مر سنوات الممارسة، واعتقدت أن الخروج عليها (مُضر). 
إلا أن دراسة تصرف رجال السياسة المؤثرين على مر التاريخ، خصوصاً في التاريخ الحديث، تكشف أن كثيراً منهم أقلقوا معاصريهم، حيث ساد الاعتقاد أن المواقف السياسية غير قابلة لـ(المغامرة)، أما أولئك السياسيون فقد عشقوا المغامرة، لنأخذ مثالاً واحداً من عصرنا لرجل دولة أثَّر في تاريخ أمته والعالم، وهو السيد ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية، هذا الرجل الذي حقق نجاحاً سياسياً ملحوظاً في بداية القرن العشرين، ما لبث أن أخذ موقفاً كان معاصروه يرون أنه غير عقلاني، وهو معارضة استقلال القارة الهندية التي كانت مستعمرة بريطانية، إلى درجة تغيير ولائه الحزبي احتجاجاً، بل والبقاء خارج الأضواء والعمل السياسي المباشر معظم سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، هُمِّش الرجل بسبب تضارب مواقفه في ذلك الملف المهم مع معظم مواقف معاصريه السياسيين، لكن موقفاً واحداً كان يصر عليه، وهو التحذير من صعود النازية في ألمانيا، في حين كان الرأي الأوسع في السياسة البريطانية يرى استرضاء أدولف هتلر ببعض من الأراضي الأوروبية لتشبع رغبته القومية في التوسع. وساد الرأي أن تشرشل مخطئ في موقفه تجاه ألمانيا، كما كان مخطئاً تجاه الهند، وسارت الأمور في البداية، وكأن أوروبا تدخل مرحلة سلام، ولكن سرعان ما تبين أنهم كانوا جميعاً مخطئين، فلما اشتعلت الحرب جاؤوا بالسيد ونستون تشرشل لإنقاذ بريطانيا! 
ترمب ما زالت قواعده في الحزام الإنجيلي الأميركي صامدة ومؤيدة لسياساته، بصرف النظر عن خروجه الملحوظ عن المعايير والأعراف، هي مؤيدة لموقفه من (الآخرين الأغراب)، ومؤيدة لفكرته في حماية الاقتصاد والوظائف الأميركية! مهما بدا تعثره في التصرفات الشخصية، أو توسع نقده في الإعلام. الورقة التي ما زالت مطروحة في الفضاء السياسي الأميركي في الداخل، هي (افتراض أن تكون روسيا قد ساعدت حملة ترمب في الانتخابات العام الماضي) وهو افتراض لا يقاربه دليل قاطع حتى الآن. روسيا كانت ضد السيدة هيلاري كلينتون، بسبب تنافر شخصي بينها وبين بوتين، كان ذلك جلياً حتى في المذكرات التي نشرتها قبل أن ترشح نفسها، وأصبح معروفاً أن احتفال الروس بفوز ترمب، هو نكاية في هيلاري! حيث قامت موسكو بشكل مباشر أو غير مباشر بالدخول على (سيرفر) الحملة الديمقراطية، وأفشت ما عرف لاحقاً بفضيحة (الإيميلات الخاصة) للسيدة كلينتون! وهناك رأى الآن بدا ينضج، أن التدخل كان سلبياً (فضح هيلاري) وليس إيجابياً (التعاون) مع حملة ترمب!
المعركة التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الروس اليوم هي ثلاثية الرؤوس، في أوكرانيا وكوريا الشمالية وفي الشرق الأوسط. الافتراض أن محادثات بيونغ يانغ القادمة مع الولايات المتحدة، إن تمت، هي نصر لكوريا الشمالية، افتراض غير دقيق. العين الحمراء و(الزر النووي الأكبر) الذي لوح به ترمب، هو الذي جعل بيونغ يانغ تعيد التفكير في المواجهة، حيث وجدت أن (المناطحة) مع الإدارة الترمبية ستخرج منها خاسرة! في أوكرانيا تشدد العقوبات الاقتصادية، وتضيق الحلقة ضد روسيا، وهناك تضييق أيضاً على وكيل روسيا في الشرق الأوسط وهي إيران! هنا ترسم اليوم خطوط المواجهة.
السيد فلاديمير بوتين، نسخة أخرى من السياسيين صعبي الاسترضاء. في 2008 استولى على إقليم أوسيتيا في جورجيا، وترك الغرب سياسيي جورجيا دون معين، وفي 2014 استولى على جزيرة القرم، فهو إبان فترة (العقلانية الأوبامية) أخذ راحته في التوسع والتدخل في حرب تصفية للشعب السوري، دون رادع حقيقي، إلا بعض التضييق الاقتصادي، ثم بدأ في تصفية المعارضين في الداخل وفي الخارج، كما فعل أخيراً في إنجلترا، وهو أمر قرع إنذاراً عالي الصوت في المجتمعات الغربية، فإدارته تحمل القليل من الاحترام للقانون الدولي أو الأعراف الدبلوماسية. يرى بوتين أن ما يفعله هو إيقاظ القومية الروسية وحقنها بأخذ الثأر من الغرب، واستند في بداية الحملة إلى تراجع غربي من جهة، ومن جهة أخرى ثروة باهظة من النفط والغاز، أثمان الأخيرة (النفط والغاز) تراجعت، كما أن نشاط الشركات الغربية في استخراج الغاز شرق البحر المتوسط، سوف تغني الغرب في وقت قريب عن غاز روسيا! تكمن قوة بوتين في ثلاثة، اعتماده على القومية الروسية وفخرها بنفسها، ودفع حدودها بالتوسع، وتراجع غربي، وحليف في الشرق الأوسط هي إيران.
المشهد الذي وصفنا سابقاً هو مشهد صراعي، هو أكثر صراعية حتى من الحرب الباردة، وقتها رسمت خطوط التماس بين المعسكرين، خصوصاً بعد أزمة كوبا في عام 1962، بشكل واضح. اليوم في غياب التفاهم بين القوتين، فإن قواعد اللعبة غير واضحة، التي تفرز كما نلاحظ اليوم، حروباً على حواف مناطق الصراع، ومن المحتمل أن يشتعل الصاعق في أي وقت قريب! انتخاب بوتين من جديد الأسبوع الماضي ينبئ بثلاثة احتمالات، الأول هو الاقتناع من جانبه أن التأييد الواسع في الانتخابات، يعني رضاءً تاماً عن سياساته السابقة، وبالتالي الاستمرار فيها، مما سوف يقود إلى صدام، والاحتمال الثاني هو قراءة المشهد بشكل مختلف، ومحاولة الوصول إلى أرض مشتركة مع الغرب، وهذا يعني فيما يعنيه حلاً سياسياً في سوريا، وتحجيم الشهية الإيرانية في قضم المناطق العربية، أما الاحتمال الثالث، فهو أن يُشبه له أن (العقلانية الأوبامية) ما زالت هي السائدة في واشنطن، وتلك قراءة خاطئة قد تقود للوصول إلى الخطوط الحمر. الأسابيع والشهور المقبلة سوف تنبئنا عن يقين.
آخر الكلام: 
استخدام التقنية الجديدة يغير بسرعة، ليس العلاقات الشخصية، ولا النظام الاقتصادي العالمي فقط، بل حتى العلاقات الدولية!