سعود الريس

 لا شيء يبهر أكثر من ان تجد نفسك بين الماضي والمستقبل في قاعة واحدة، هنا تختزل الزمن في لحظات وذكريات، ثم تجدف بك بعيداً إلى المستقبل، المشهد بدا هكذا في حفلة عشاء الشراكة السعودية - الأميركية في واشنطن، التي أقيمت بمناسبة زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فكانت لحظات فارقة عندما تجتمع بأشخاص سجلهم التاريخ كلاعبين رئيسين، وآخرين يكتبون تاريخ المستقبل.

جيمس بيكر، وديك تشيني، وكولن باول، ووليام كوهين، وجيب بوش، وبينهم بندر بن سلطان، هم الأشخاص ذاتهم الذين كنا نتابعهم عبر شاشات التلفزيون، ونقف مبهورين وهم يشكلون تاريخ المنطقة ويصوغونه بطريقتهم، يجتمعون تحت سقف واحد مع طموح يتحدث عن صياغة التاريخ للمستقبل رابطاً حقبتهم بحقبة مقبلة، الأميران محمد بن سلمان، والسفير الذي بدأ يخطف الأنظار، خالد بن سلمان، كانا طموحاً متجلياً في تلك الليلة.

الحدث كان عبارة عن مبارزة بين عمالقة المستقبل أمام عمالقة التاريخ، أي تناقض هذا، وأي قدرة تلك، التي تؤشر لمرحلة أكثر قوة، غير مسبوقة، يتم صياغتها لتتناسب مع حجم الدولتين.

زيارة ولي العهد إلى واشنطن تحمل الكثير من المؤشرات، وبعيداً عن برتوكولات الزيارة وتفاصيلها، هناك جوانب غير معلنة، لكنها لا تخفى على المراقب والمتابع بعين فاحصة، فعلى الصعيد الاستراتيجي، هناك مسارات جديدة تبنى مع السعودية لم تكن موجودة منذ أكثر من 50 عاماً، ونستطيع القول اليوم، بكل أريحية، إن ما بناه الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، في تلك المرحلة من عمر الدولة السعودية، يتبلور اليوم، وفي أبعاد مختلفة.

فما يحدث اليوم هو ربط مشاريع التحديث السعودية، لا بالاميركان، بل بأفضل ما عندهم، فهنا مشروع سعودي بات واضحاً للجميع، واللافت أكثر أن هذا المشروع لا يرتبط بشخص يحكم في البيت الأبيض، ولا بإدارته، بل بالمؤسسة، ووفق هذه الرؤية فأمام كل التزام هناك التزام مقابل، وهذا النوع من العلاقة يمتد من غير ارتباط بزمان محدد، ولا يتأثر بظرف أو آخر، .فكل طرف في هذه العلاقة يعلم ماذا يريد الطرف الثاني، وذلك ما يجعل الرهانات من الخارج تتداعى واحداً تلو الآخر، فالأمير محمد بن سلمان يريد تعاوناً أميركياً بجميع التفاصيل، وهو بذلك يستند على حزمة إصلاحات في الداخل لجوانب عدة. لهذا الطموح وما يقدم له من عمل أعطى لزيارة ولي العهد السعودي أهمية متضاعفة لا تقتصر مكاسبها على المستوى الإقليمي، لكن هناك أولويات، في مقدمها تعزيز موقف السعودية دولياً، وهذا، بحد ذاته، يشكل ضربة وخسارة لإيران، إن أردنا أن نضعها في ميزان القوى في المنطقة.

على الجانب الآخر، هناك إصرار سعودي يتناغم مع الإصرار الأميركي بضرورة إيجاد حل سياسي لليمن، بمنطق أن هناك جماعة لا تعرف إلى أين تسير، ونحن نعمل وفق قرارات أممية لحل الخلاف بين اليمنيين أنفسهم، بمنطق من يستطيع أن يفعل شيئاً لرأب الصدع بين اليمنيين أنفسهم فليفعل، لكننا لن ننتظر، ولن نسمح باستهداف أمننا واستقرارنا.

زيارة الولايات المتحدة الأميركية، سبقتها زيارة، لا تقل أهمية، إلى بريطانيا، كانت لها أصداء واسعة، فعراب البرنامج الإصلاحي في السعودية، محمد بن سلمان، خاطب البريطانيين بعقليتهم، وأيضاً خاطبهم بلغتهم، تماماً مثلما فعل في أميركا، تمكن الغرب أخيراً من قراءة المشهد السعودي، ما قطع الشكوك كافة، التي كانت موجودة، أو تم الإيحاء بها من البعض، فالأمير الشاب، الذي يقود دولة فتية، بجميع مقاييس اليوم، أدرك أن هناك صعوبة في الانطلاق إلى المستقبل بالعقلية السابقة، وأقصد بالسابقة تلك التي كانت تضع حواجز وهمية، ومعوقات مصطنعة، كانت تعزل البلاد، وتحد من اندماجها في المجتمع الدولي. لذلك تحظى رؤيته اليوم باهتمام عالمي بالغ، أينما حل، وأينما اتجه.

السعودية اليوم، هي سعودية الأمس، لم تتغير مبادؤها، ولازالت تحافظ على هويتها الإسلامية، وهي أحد أبرز عوامل استقرار الاقتصاد العالمي، بجانب ثقلها الإسلامي، واليوم يتضح في شكل أكبر ثقلها العسكري والاستراتيجي، وفي مقدمهم السياسي، لذلك وجدناها تتواصل كدولة طبيعية من غابات آسيا شرقاً إلى أنهار الغرب الأميركي غرباً، مروراً بأدغال أفريقيا، ولا شك أنه، وأمام ذلك الجهد، الذي يتم القيام به، وتبلور خلال عامين فقط، هناك نتائج ستظهر قريباً، فالقيادة تدرك تماماً أن الحراك، الذي تقوم به، سيمكنها من ممارسة الدور، الذي تريده في المرحلة المقبلة، وأيضاً الدور، الذي يعول عليه شركاؤها، ولتحقيق ذلك كانت في حاجة للخروج لتوضح سماحة الدين الإسلامي، متخلصة من أفكار التطرف والتعصب، التي عانت منها على مر الأعوام الماضية، وحملها أعباء اتهامات كانت توصم بها، هي منها براء.

لم يعد توزيع الاتهامات يقلق السعودية، ولم تعد تكترث إلا بشيء واحد فقط.. هو السعودية، السعودية أولاً.