عبد المنعم سعيد

 كان الدبلوماسي والسياسي والمفكر الأميركي جورج كينان هو الذي صاغ تعبير «الحرب الباردة» لكي يصف العلاقات الأميركية السوفياتية بعد تعاونهما وتحالفهما طوال الحرب العالمية الثانية. كانت الحرب باردة لأنه كان مستحيلاً أن تكون ساخنة بين عملاقين باتا يمتلكان أسلحة نووية تبيد الكوكب كله. ولكنها لم تكن باردة كل البرودة في كل المجالات الأخرى للنفوذ والحروب السياسية والدبلوماسية والآيديولوجية في المحافل الدولية؛ ولم يكن لدى الطرفين مانع من سخونة الحرب لو كانت بالوكالة في مناطق أخرى مثل أوروبا والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا. وللحق فإنه رغم أن تعبير «الحرب الباردة» لم يستخدَم إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه كان نمطاً للحروب قبل ذلك في أثناء الثلاثينات من القرن الماضي حينما شنّت دول العالم الصناعية نوعاً من الحرب الباردة باتباع سياسات حمائية ميركانتيلية تُفرض فيها الضرائب والرسوم على منتجات وصادرات أطراف أخرى في النظام الدولي، مما قاد في النهاية إلى الحرب العالمية الثانية أو على الأقل كان أحد أسبابها الرئيسية. تغير ذلك كله بعد الحرب حينما لم تظهر مؤسسة الأمم المتحدة وحدها، وإنما لحقت بها ووقفت معها مجموعة من المؤسسات الأخرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وغيرها، وكلها عملت على تحقيق الاستقرار الاقتصادي في السوق العالمية.

قام عالم كامل من الأفكار والمُثُل، وحتى السعي نحو التعايش بين الأديان والثقافات، وحتى الحضارات. أو كان ذلك على الأقل ما تحاوله الدول والأمم بغض النظر عن مدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق النموذج النقي لليبرالية التي باتت قيمها ومُثُلها هي الحاكمة للمواثيق الدولية التي تتالت بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى عندما اختلفت الدول الاشتراكية مع الدول الرأسمالية فإنها لم تنسَ اللجوء إلى ما سمته «الديمقراطيات الشعبية» لكي تبرر تطبيق مذهبها بصورة أو بأخرى، وكان المعنى ساعتها أن طريقها إلى المساواة، والاعتراف بالآخر، أكثر اقتراباً من الحقيقة. وعندما عُممت «العولمة» التي جاءت نتيجة تكسُّر الأسوار والحواجز الاقتصادية والتكنولوجية والفكرية بين الدول، فإن المرجعية العالمية أصبحت «الحرية» في السوق والرأي والمعتقَد، وما بات يعد حقوق الإنسان الأساسية. وعلى أساس هذه الفكرة ظهرت أفكار أخرى عن «التدخل الإنساني»، والتحول الديمقراطي، وعالمية الحقوق الإنسانية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، وهكذا أفكار ومؤسسات.
وبعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تهاوى عالم كامل من الأفكار والمُثُل، بل وأكثر من ذلك برز افتراض «صراع الحضارات» الحتمي، دفع ذلك بفجوة كبيرة بين عالم كان قد تغير بالفعل في اتجاه التعايش الإنساني بين البشر تبدَّى في انتقال السلع والأفكار ومعهما البشر، وعالم آخر يسوده الخوف والتوجس من الآخر. وبشكل من الأشكال كان العالم يعيش تناقضاً حاداً بين آليات اقتصادية وتكنولوجية تضغط بشدة من أجل مزيد من التفاعل والتواصل والاتصال بين الناس؛ وحالة مرهقة من النفور ورفض النتائج الثقافية والحضارية الناجمة عن هذه الحالة. وفي يوم من أيام القرن التاسع عشر قال كارل ماركس، ومعه طائفة أخرى من المفكرين، إن حدوث تناقض ما بين التطور في قوى الإنتاج، وحالة علاقات الإنتاج، يمكنه أن يولّد صراعاً من نوع أو آخر. وإذا كان الصراع الذي رآه كان بالضرورة صراعاً طبقياً، فإنه في إطار العالم الذي نعيشه صار صراعاً ثقافياً وحضارياً قيمياً مع الآخر المختلف بطريقة ما حتى ولو كان الجار الذي يسكن في الشقة المجاورة.
والحقيقة أنه حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فإن القيم المناهضة للعولمة في العالم استندت إلى منطلقات ثقافية وحضارية، وفي الكثير منها كانت تمس العالم الإسلامي وحده في مواجهة العالم، وفيه قامت حروب ساخنة انتشرت من أفغانستان إلى المنطقة العربية بعد «الربيع العربي» المزعوم. ولكن مع امتداد العقد الثاني من القرن الجديد لم تعد المسألة الساخنة تخص العرب والمسلمين وحدهم، بل إنها امتدت ساخنة إلى أوكرانيا، وباردة إلى الكثير من مناطق العالم حيث استؤنفت صراعات وتوترات قديمة، وبزغت أخرى جديدة. وكانت البداية هي الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي الذي كان ممثلاً للزهرة البارزة للعولمة والهندسة السياسية والاقتصادية الدولية. ومع الخروج البريطاني ظهرت نزعات أخرى للشعبوية والانعزالية، وفي أحيان حازت هذه التيارات الأغلبية في دول مثل المجر وبولندا واليونان؛ وعندما فشلت في فرنسا وألمانيا وهولندا، فإنها تركت وراءها أقليات قوية في البرلمانات وفي الشارع يصعب تجاهلها لا سياسياً ولا اقتصادياً خصوصاً في ما يتعلق بقضايا الهجرة والمهاجرين. الجديد الآن أن الولايات المتحدة التي تزعمت «عولمة» العالم، وقدمت نفسها للدنيا باعتبارها النموذج المثالي للدولة المتعولمة المرحبة بالمهاجرين والأقليات، باتت متزعمة الخروج من النظام العالمي، بل وخلق الأسوار بينها وبينه إذا كان ذلك ضرورياً وممكناً.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب دخل إلى عالم السياسة الأميركية بكثير من الأفكار التي دارت حول «أميركا أولاً» و«أن تعود أميركا إلى عظمتها مرة أخرى»، ولكنه كان ممن يعتقدون أن شراكة أميركية روسية يمكنها أن تكون لصالح البلدين، ومصلحة العالم في نفس الوقت. كانت مشاعر الرجل السلبية متجهة نحو العالم الثالث، والمهاجرين من أميركا الجنوبية؛ ولكنه الآن بات يرسي سياسات تنبئ بأن «حرباً باردة» جديدة على أبواب النظام الدولي. والبداية كانت فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب قيامها باغتيال جاسوس بريطاني سابق، وقيام بريطانيا استناداً إلى هذا الاتهام بطرد الدبلوماسيين الروس، وبادلتها موسكو نفس الإجراء. كانت مساندة بريطانيا إجراءً لا يستطيع ترمب تجاهله، ولكنه يبدو قد غيّر آراءه تجاه بوتين وروسيا بسبب سياساتها في مناطق مختلفة من العالم. وأكثر من ذلك فإن ترمب بدأ سلسلة من القرارات التنفيذية لرفع الجمارك والرسوم بمقدار 25% و15% على الصلب والألمنيوم تجاه العالم كله، بينما اختص الصين برسوم تقلل من صادراتها إلى الولايات المتحدة بمقدار 60 مليار دولار. وأحاط ترمب كل ذلك بسلسلة تغييرات في طاقم سياسته الخارجية فخرج تليرسون وماكماستر ودخل مكانهما بومبيو وبولتون. ورغم أن الأولين لم يكونا من الحمائم وإنما من الصقور، فإن التاليين لهما مراتب أعلى في التشدد والتشكك إزاء إيران وروسيا والصين.
هذه الحزمة من التغييرات في السياسة الأميركية سوف تكون مجرد بداية لا بد أنه سوف تتبعها نتائج وردود أفعال من الدول الأوروبية والدول الكبرى الأخرى ربما تبدأ حرباً باردة متعددة الأبعاد تكون لها نتائج استراتيجية واقتصادية معاً. وبالنسبة إلينا في العالم العربي فإن كل المواقف الدولية تحتمل فرصاً ومخاطر، وما علينا إلا انتهاز الفرص عندما تلوح، وتجنب المخاطر حينما تأتي، فهي الضامنة لنا في عالم عاصف.