نبيل عبد الفتاح

 الفكرة العربية كرابطة جامعة للشعوب والدول العربية نشأت وتبلورت نظريًا على أيدى نخبة مثقفة من ألمع المفكرين العرب، فى سياق عملية تاريخية تركزت على ضرورة الانخلاع من الفكرة العثمانية وأسطورة تمثيلها السياسى للجامعة الإسلامية تحت غطاء الخلافة الإسلامية، والتى شهدت أشكالا من نير الاستعمار العثمانى للبلدان العربية ونهب ثرواتها، ناهيك عن أشكال القهر والطغيان التى مارستها هذه الدولة على شعوب عالمنا العربي، ومن ثم كان التنظير للفكرة العربية محاولة لإبراز التمايز السياسى والثقافى والقومى للشعوب العربية، عن الدولة العثمانية. راد هذه الفكرة بعض المفكرين الشوام من أبناء الطبقات الوسطى، غداة الاستقلال وبعده من ساطع الحصرى إلى قسطنطين زريق وشبلى العيسمي، وقادة حزب البعث من أمثال ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، فى سوريا، وفؤاد الركابى وفخرى ياسين قدوري، وجعفر قاسم حموري، وشمس الدين كاظم، ومحمد سعيد الأسود، وسعدون حمادى. كانت الفكرة القومية العربية جزءًا من الجدل السياسى قبل الاستقلال والتنظير له، بين طموح الوحدة العربية الشاملة إلى أشكال وحدوية ثنائية وثلاثية كما حدثت مع جمال عبدالناصر وثورة يوليو، وحزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا والعراق. ارتكزت الفكرة العربية على أساس اجتماعى تمثل فى قادة الاستقلال وما بعد من أبناء الطبقات الوسطى، وارتكزت على هذه القاعدة الاجتماعية. تجسدت الفكرة فى مشاريع وحدوية ثنائية وثلاثية لم تحقق نجاحًا كبيرًا الوحدة المصرية/ السورية ثم الثلاثية مع العراق ـ لأنها كانت ذات طابع فوقى وشكلت محاولة لتجاوز النخب السياسية فى المشرق العربى مأزقها الداخلي، ناهيك عن المشكلات الداخلية كما وقفت الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية موقفًا معاديًا للحركة القومية العربية. تراجعت الفكرة القومية العربية، مع هزيمة يونيو 1967، وتركيز مصر وسوريا على إزالة آثار العدوان وتحرير الأراضى العربية المحتلة، واعتماد كلتا الدولتين على دعم بعض الدول النفطية لها وثمة أسباب أخرى وراء هذا النكوص القومى، يمكن لنا تحديد بعضها فى:

1- هشاشة الفكرة الوطنية ما بعد الاستقلال، وعدم تبلور ونضج شروط تطورها الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والثقافي، لأن الهياكل الاجتماعية فى غالب هذه المجتمعات باستثناء مصر والمغرب اعتمدت على تكوينات انقسامية، حول الولاءات الأولية للمكونات الأساسية لها، من القبائل والعشائر والعائلات الممتدة والمناطق والديانات والمذاهب داخلها، بل وفى بعض البلدان على تكوينات شبه قومية داخلها كالأكراد فى العراق وسوريا، وعلى الطوائف الدينية، كما فى لبنان وسوريا من هنا كان تركيز نخب ما بعد الاستقلال على استخدام أجهزة «الدولة» القمعية فى دعم وتطبيق استراتيجية بوتقة الصهر.

2- عدم تبلور التشكيلات الاجتماعية، والشروط السياسية والاقتصادية والثقافية التاريخية لتحول الفكرة العربية إلى فكرة وحركة قومية جامعة تواكب وتسوق عمليات بناء الدولة /الأمة الواحدة خاصة فى ظل تباين مستويات التطور الاقتصادى والاجتماعي، من ثم ظلت الفكرة القومية العربية أقرب إلى نموذج مثالى.

3- النزاعات فى ظل الحرب الباردة العربية العربية استأثرت بالاهتمامات «القطرية» للنخب الحاكمة، ومن ثم أولت اهتماماتها بالانقسامات على الموحدات العربية الجامعة.

4- ظلت الجامعة العربية ولا تزال ساحة للنزاعات العربية، وتعبيرًا عن أوضاع دولها ومصالحها المتباينة، ومن ثم أصبحت مظلة رسمية تعكس تناقضات الواقع العربى أكثر من سعيها نحو أشكال من التوحد.

فى ظل إقليم مضطرب، ومتصدع مع غزو العراق، والربيع العربي، وتفكك وانهيار بعض الدول كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، ذوى الخطاب القومى العربي، ومن ثم وهن دعاة القومية من حيث الحضور فى الحياة السياسية لمصلحة الأفكار الانعزالية، وسعى كل نظام لتحقيق الحد الأدنى من استقراره الداخلي، واستمرارية فجوات القوة الاقتصادية بين الدول النفطية والأخرى المعسورة، والتى تواجه مشكلات هيكلية كبرى، وخفوت صوت الجامعة العربية وعدم تأثيرها فى العمليات والتفاعلات السياسية فى المنطقة، من ناحية أخرى ازدياد تمدد وقوة وحضور دول الجوار الجغرافى فى داخل الإقليم إسرائيل وتركيا وإيران على أرضية بعض الجماعات الإسلامية السياسية والمذهبية التى تناهض الفكرة العربية الجامعة. إن نظرة على هذه الاضطرابات والتصدعات الإقليمية تشير إلى الحاجة الموضوعية لإعادة تجديد الفكرة القومية العربية تحت مسميات جديدة، ومضامين وأشكال مختلفة تتمثل فى إحياء الفكرة العربية حول التكامل الثقافي، الذى تتوافر شروطه الاجتماعية، والذى يتمثل فى صيغة الوحدة والتنوع، أى بين الموحدات الثقافية الجامعة والعابرة للدول والمجتمعات العربية، وحيث تتم التفاعلات بين الشعوب العربية فى يُسر، وإثمار، وتحتاج فقط لتطوير بعض أشكال التكامل المؤسسى الرسمى والطوعى ومن خلال التكامل الثقافى تبدأ الحركة نحو أنماط أخرى من التكامل الاقتصادى والسياسي.