سمير عطا الله

 كان جون مورتيمر محامياً وكاتباً مسرحياً وكاتباً سينمائياً وناقداً وروائياً. والذين أُعطوا أن يعيشوا حقبة من عمرهم في حديقة الفكر والذكاء والحضارات المعروفة باسم لندن، تسنى لهم أن يشاهدوا المسلسلات التلفزيونية التي وضعها مورتيمر عن حياة المحامين، مستوحياً مواضيعها من حياة والده، كما استوحى توفيق الحكيم رائعته «يوميات نائب في الأرياف» من عمله في القضاء.

ذات يوم كان والد مورتيمر يترجل من سيارة أجرة أمام مكتبه عندما اصطدم رأسه ببابها. وبسبب الإصابة راح يفقد بصره تدريجياً، لكن العائلة لم تقر بذلك. أما في المنزل فلم يكن بد من الإقرار. أصيب مورتيمر الأب بكآبة، وانصرف عن الناس، وراح يمضي معظم وقته في الحديقة، يزرع الزهر والخضار. وإذا ما جاءهم ضيف اختبأ، حتى فرح بأن أحداً لم يعد يزورهم.
وازداد تعلقه بحديقته، ربما عملاً بقول فولتير عندما داهمته الشيخوخة: فلينصرف كل منا إلى حديقته. يقول جون مورتيمر في مذكراته المعنونة «التعلق بالحطام» إن والده فقد بصره تماماً، لكنه ظل يخرج إلى الحديقة ويطلب منه، أو من أمه، أن يصف له كيف ينمو الخضار والزهور.
الحمد لله على نعمة النظر واللهم رحماك لا تحرمنا. أمتع الأوقات التي أمضيها الآن هي في حديقة الضيعة. والآن موسم الزهور على الشجر. غداً تصبح هذه تفاحة، وهذه إجاصة (كمثرى)، وهذه خوخة. وثمة شجرتا سفرجل مغمورتان بالبراعم غمراً. وشجرتا كستناء كنت قد رأيت مثلهما في فلورنسا. وأربع شجرات برتقال نقلت فكرتها عن بساتين ساحل آمالفي في جنوب إيطاليا حيث يتشابك الفقر مع أجمل بقاع الأرض.
في مراحل العمر، حلمت بالإقامة في أكثر من بلد، ولا أزال في هذا المعنى مراهقاً لا أرشد. فعندما سافرت إلى آيرلندا العام 1969 قبيل زواجي بأشهر، حاولت إقناع زوجتي فيما بعد بالانتقال إلى دبلن. وكادت هذه الرفيقة الغالية تحزم الحقيبة، لكنه تعالى يهدي من يشاء. وحزمنا الحقيبة مرات عدة فيما بعد. المكان الوحيد الذي لم أحلم به كان إيطاليا: المغرب فيه شبهُه بلبنان، والمفزع شبه الإيطاليين بنا.
وفي أي حال مضى زمن الأحلام وبقيت هذه الحديقة: برتقال من سورنتو، كستناء من فلورنسا، خوخ من فرنسا... ذكريات من كل مكان.