صالح زياد

يقع برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي تقدمه قناة الجزيرة القطرية، في القلب من المعنى الذي تريد القناة تمثيله لمشاهديها، والمبدأ الذي يحكمها في وجهتها الإعلامية إليهم؛ ولذلك يغدو الوصف له وصفا لخطاب القناة في جملته.


فالبرنامج يجمع طرفين متناقضين، ويدير بينهما أسئلة صدامية، يتعاركان حولها، وترتفع أصواتهما، وتخرج في الغالب إلى عنف لفظي تجاه بعضهما، يصل أحيانا إلى درجة مد اليد بالضرب من أحدهما أو من كل منهما على خصمه.
والمبدأ الذي يتخذه البرنامج كما تتخذه الجزيرة شعارا، هو «الرأي والرأي الآخر». وهو، فيما يبدو، دعوى بقبول الاختلاف، والترويج له، ونقض للرأي الأحادي، الذي لا يرى لرأي غيره مشروعية، ولا يسمح له بالوجود.
لكن صيغة التقابل الثنائي التي يقوم البرنامج عليها، تمارس مركَزَة للاختلاف وتراتبية، فلا يغدو إفساحا للاختلاف بل تحكُّما فيه، وبناءً له من وجهة محدودة.
ولسنا نشك في أن تعددية الرأي واختلافه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، وحاجة المجتمعات الإنسانية إلى الإفساح لها هي حاجة إلى توسيع الرؤية، وإكساب الوعي مزيدا من الثراء، ونزع فتيل التوتر. لكن دعوى الاختلاف لدى الجزيرة - فيما نسعى هنا إلى الكشف عنه - حق يراد به باطل؛ لأنه يَؤُول لديها إلى وسيلة للتغرير والتضليل والإثارة، وزيادة حدَّة التنافي بين الآراء والوجهات، واستفحال التعادي والصدام والتطرف.
ويمكننا أن نكتشف الخطورة في الاتجاه المعاكس، من زاوية حَصْره الاختلاف في هذا التقابل الثنائي الذي يدلل عليه اسم البرنامج، وتمثِّله صيغته التي ينبني عليها، وهو التقابل الذي يذكي البرنامج حدِّيَّته بين طرفيه، ويسعى إلى تأجيج توتره، ويفاقمه.
أن يقف البرنامج على الاختلاف بين طرفين نقيضين ومتعارضين، يعني أنه يزرع في وعي من يخاطبهم – بالضرورة - الانحياز لا الحياد، ومن ثم الأحادية لا التعددية، والعنف لا الحوار، والذاتية لا الموضوعية، والتطرف لا التسامح.
هناك وجوه تشارُك بين الطرفين المختلفين أكثر من وجوه التناقض بينهما، وحين نضعهما في حدِّية التقابل لا نرى إلا تناقضهما وتضادهما بالكلية، ونحمل كلا منهما على الوقوف إلى أقصى حدود الضدية لخصمه.
وأن يقف البرنامج على الاختلاف بين طرفين نقيضين ومتعارضين، يعني أنه يُغْفِل الاختلاف بين كل منهما وبين غيره الذي يجاوز الطرف المحدَّد من قِبَل البرنامج، كما يُغْفِل الاختلاف والتناقض والتضاد داخل الطرف الذي لا يعرِّفنا به البرنامج إلا في مقابل غيره من خارجه، وليس المقابل له ونقيضه في داخله.
رؤية الاختلاف في أزواج وثنائيات، هي مَرْكَزة حتمية لأحدهما، وانحياز إليه، وهذه رؤية تَؤُول إلى الأحادية لا الاختلاف، والضيق لا السعة، والجبر لا الحرية. ولذلك يحظى «الاتجاه المعاكس» كما تحظى الجزيرة، بجمهور من المتطرفين، وهو جمهور يتذرع كما تتذرع الجزيرة بالحق في الاختلاف، ولكنه حقهم هم دون غيرهم.
لا يمثِّل طرفا البرنامج المتعارضان شخصيهما، بل يمثلان تيارين سياسيين، أو ثقافيين، أو بلدين، ولذلك تغدو المقابلة بينهما مقابلة صراع لا ينحصر فيهما، بل يتجاوزهما إلى خلفية اجتماعية أوسع وأبعد منهما.
هكذا يمكن رؤية الصراع في البرنامج بوصفه تأجيجا لحرب أهلية داخل المجتمعات العربية؛ وقضايا الداخل في البلدان العربية كلا على حدة، هي موضوع النقاش في جملة من حلقات البرنامج. أو تأجيجاً للصدام بين البلدان العربية؛ وهذه العلاقة البينية عربياً هي موضوع البرنامج في جملة ثانية من حلقاته، أو بين بعض البلدان العربية وبين أطراف عالمية؛ وهي جملة ثالثة من موضوعات البرنامج.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالبرنامج ومن ورائه قناة الجزيرة بجملتها، أوضح انحيازا إلى الطرف الأكثر ضيقا بالحرية والأكثر محاربة للاختلاف، والأكثر تطرفاً وراديكالية.
لذلك لم يخالف الحقيقة أولئك الذين كانوا يستشعرون خطر قناة الجزيرة عربيا، وكانوا يحذِّرون من تسميمها عقول مشاهديها، واحتراف التحريض والفتنة وإثارة الرأي العام، وتهديد استقرار الدول، وبث الاضطراب فيها، وتصعيد التوتر بين تياراتها السياسية والاجتماعية.
لنتذكر هنا مثالا واضحا على موقف الجزيرة الحقيقي من الاختلاف، حين أصدر الشيخ يوسف القرضاوي، أحد مشايخ الإسلام السياسي المقيمين في قطر، فتوى تدعو إلى انتخاب عضو حزبه من الإخوان محمد مرسي، وتُحرِّم غيره، واصفاً انتخابه بأنه: «سيرضي الله عز وجل، ومن لا يختاره آثم، وعلى كل مصري يخشى الله عز وجل وحريص على إرضاء ربه أن يختار مرسي، لأنه سيقيم العدل في الأرض».
هل وضعت الجزيرة هذه الفتوى موضع تعرية وكشف وتنديد، لنتبين إيمانها بالحرية والاختلاف والرأي الآخر كما تدَّعي؟! وهل لمن يرفض الحرية ويفرض رأيه السياسي الذي ينسبه إلى الدين ويمنحه قداسة الفتوى أن يملك أحقية في أي حوار باسم الاختلاف، فضلا عن أن يتخذ القناة التي تدَّعي النضال في سبيل الاختلاف منبرا له؟! وكيف ستكون فتواه ضد آخرين لا يرتضيهم من الفصائل الإسلامية نفسها؟!
هذه الفتوى لا تنزع الثقة صراحة من مرشح وطني لا ينتمي حزبياً إلى فصيل القرضاوي، بل تنزع الثقة وتطعن في النية تجاه كل من لم يتحزب بحزبيته المحدودة، وتحتكر الدين والخير والحق في سياسة الناس وتوجيههم لحيِّزها. وهي ضمنياً تجاوز بطعنها في الضمير وتشويهها للعقيدة مرشحاً بعينه وزماناً ومكاناً محدَّدَين، إلى المسلمين عامة، وإلى حكوماتهم ودولهم الحالية والمستقبلية التي تريد أن ترتهنها لوجهتها وتستبدُّ بها.
فإذا رأينا الجزيرة تتمدح بإفساحها للرأي الآخر، وإذا أتاحت الفرصة للاتجاه المعاكس، فليس شيء من ذلك، على وجه الإجمال، في حق أي رأي وطني، بل هو في حق تلك الوجهة التي لا ترى في غيرها خيراً ولا لضميره حرمة. وكل ما تعزف الجزيرة عليه أوتارها مما يُطرِب جمهورها من مقاومة الاستبداد والانتصار للمظلوميات وحقوق الإنسان (وهي قضايا مشروعة ونقائصها عربية بامتياز بما في ذلك دولة قطر مقر الجزيرة) لا يخرج عن خدمة تلك الوجهة التي تتصف هي نفسها بالاستبداد وسلب حقوق المواطنين ذكوراً وإناثاً وكتم حرياتهم.
أما الذين يرون أسلوب المناظرات الثنائية في بعض القنوات الغربية، حُجةً لقناة الجزيرة، ومرقى إلى مهنية لم يألفها الإعلام العربي، فحجتهم داحضة من أكثر من وجه.
فالقنوات الغربية تندرج في سياق اجتماعي وثقافي ألِفَ الاختلاف والتعددية، وترسَّخت المؤسسات التي تحميه، بفعل تنوير فكري وإصلاح ديني وتطور اجتماعي؛ لذلك تنتفي خطورة اصطناع «المناقرات» الثنائية لأنها تالية لوعي الاختلاف والتعدد لا سابقة عليه. وإلى ذلك فلا توجد قناة غربية ذات تأثير تمارس استقطاباً متحيزاً إلى التطرف بأي وجه.
ليس لنا إلا الاتفاق حول حاجة الوعي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية حديثا إلى الدور التنويري الذي ينهض به الإعلام، ضمن الحاجة إلى تنوير فكري وديني وتطور اجتماعي. وهو دور محدود في قنواتنا ووسائل إعلامنا، لأنه دور عسير في ثقافتنا المتخمة بالشعبوية والمتشبعة بروح القبلية والفكر الأحادي.
وليس لنا إلا الاتفاق حول ضرورة ترسيخ استقرار الدولة، التي ينبني على استقرارها مساعي التنمية والتحديث، والطموح إلى بناء وعي مستنير.