عبدالله بشارة

 أتحدث عن الضيم الذي تحملته قيادة الكويت من زعامات حزب البعث العراقي وتطاولها على حقيقة الدولة الكويتية وتصغيرها لطموحات شعبها، فذكرى تلك المناظر تثير السخط، مع اعجابي بصبر القيادة الكويتية على تلك الغارات العبثية، وبرفضها الادعاءات مع غياب تقدير الاصطفاف الكويتي نحو السياسة العروبية.
كان طلب الانضمام الكويتي لجامعة الدول العربية فصلاً فكاهياً، تلاعبت فيه الشكوك نحو الترابط الكويتي ـــ البريطاني، فكان الرئيس عبدالناصر واضحاً في ضرورة التخلّص من بريطانيا ثمناً لدعم الكويت مع أطراف أخرى تستعجل البت في قرار بدعم الهوية الكويتية المستقلة، وكانت المملكة العربية السعودية العمود الصلب، بينما كان دور الناصرية اقناع الشيخ عبدالله السالم بفضيلة التخلّي عن بريطانيا التي كانت تحث الأمير على قبول الحل الوسط، وبعد شهر من التأجيل انضمت الكويت إلى الجامعة العربية في يوليو 1961، وجاءت قوات عربية رمزية انتهت مدتها بعد قضاء 18 شهراً في الكويت.
كان قرار الكويت في وضع ثقتها في قوة عربية رمزية لمقاومة احتمالات العدوان أمرا غير عادي في احتمالاته في ما يمكن أن يحدث للكويت ولأهلها ولتاريخ طموحاتها، لكن الشيخ الجليل أخذ القرار الصعب..
كنت أحد الشباب المنضمين للعمل في وزارة الخارجية، وشهدت الانسجام الكويتي القومي مع أحكام العروبة في فتح مخازن السيولة المالية لتمويل مشاريع عربية، اقتصادياً وتجاريا، وانطلاق الكويت في المشهد السياسي العروبي تبنى قضايا الأمة، والاصرار على البقاء في المقعد الأمامي في طابور العروبة.
لم تكن لنا قضايا سوى ملفات الجامعة العربية في فلسطين والجزائر واليمن شمالاً وجنوباً، ورحنا في فضاء الدبلوماسية العالمية ننعت الكبار العالميين بتحدي المقتنع غير المبالي بالتبعات، ولا أريد أن أقرأ ما تحتفظ فيه المحاضر والمدونات من مفردات كويتية، رميناها في وجه القادرين.
أكثر ما كان يشغلنا في الانطلاق الدبلوماسي هو الحفاظ على الكويت ضمن الحزمة العربية التي جاءت في يوليو 1961، وكان حرصنا شديداً على التناغم بين الحماية العربية الرمزية ومستلزمات العروبة، وصارت آليات الدولة كلها تردد هذه الأناشيد، دولة مستقلة بوقاية عروبية، وكنا نعزف الألحان غير مهتمين بنصائح الصادقين الذين تحسّسوا من اصرارنا على أن نكون في الصفوف الأمامية من الماراثون السياسي العروبي.
كان عنوان الكويت الدبلوماسية العروبية، وجدول أعمالها غرس المحتوى العروبي في ضلوع الكويت، وفي قلبها وفي تنفسها.
كانت غربتي في الأمم المتحدة ايقاظا من تلك الحالة الواهمة، ففي قاعة الأمم المتحدة تصرخ الدولة الوطنية بآلامها وتطرح جروحها وتتوسل علاجها، لا أحد ينتشي بملف الآخرين ولا أحد يبكي لآلام الآخرين.
شهدت مولد بنغلادش، وتابعت روتينية التعامل مع شرعة الهم الفلسطيني، ورأيت من يبكي من ضيم الجوار واستمعت إلى عوز المحتاجين وإخفاقات الواهمين في نجدة تسعفهم.
ظل ذلك المعزوف العروبي حتى يوم الغزو المشؤوم، وشاهدت ارباك المهادنين من زعامات العرب وتواضع صلابتهم وظهور حقائق مواقفهم، ولولا دول الخليج والرئيس حسني مبارك، والسوري حافظ الأسد، لتبدل السيناريو بشكل مثير.
رواية الكويت مع السلوك العروبي شبه ملحمة، سجل عطاؤها في قرارات مجلس الدفاع العربي المشترك حول نهر الأردن والدعم العسكري، لكن العمود الفقري ظل في المسار الاقتصادي التنموي، بالإضافة إلى قروض ومنح، ويعزز ذلك العطاء الخيري المجتمعي مع اسعافات نقدية لا تتوقف.
لكن الأهم هو تفاعل القيادة مع هذا التوجه، دولة كويتية وطنية بألحان عروبية وأكثر من تحمل عبء ترجمتها هو سمو الأمير القانع بأن صفاء العرب قوة للكويت، وأن وسيلة الصفاء هي الوصفة العروبية، فانتقل بها إلى كل زوايا عالم العرب، لم يقصر ولم يكترث بالحرير أو الحصير، كان بسيطاً في الطلبات ومصمماً على حل المشاكل.
رافقته كثيراً في تلك المأموريات، ويمكن القول انه لن يأتي من يضاهي الكويت في عمق التزامها العروبية الصادقة مع رسم واقع متداخل بين الدولة الوطنية الكويتية والمشروع العروبي الحالم.
ومنذ التحرير لم يتوقّف سمو الأمير عن البحث لدواء وعلاج ما خلفه الغزو من تركة نفسية وتاريخية مؤلمة، أعاد العلاقات مع العواصم المخدوعة، وارتفع في علو القيم، ورسم دوراً انسانياً للكويت يتجاوز خرائط العروبة إلى أطلس الكون مستضيفاً التجمعات لحماية الانسان وانقاذه في العراق وسوريا وفي وديان وسهول ما كانت ضمن ملفاتنا، وصار أميراً للانسانية.
ستبقى الكويت بهذا الارث رغم ذكريات الغزو وحصاده المر، حيث اتسع الحضن الكويتي للعروبة وللخطوط الانسانية الممتدة عبر الكون.
من يملك الغلاظة لينكر علينا حق الاعجاب بوطن صغير قامته عالية وانفتاحاته واسعة وسخاؤه معلم من معالم تربته الوطنية..
وتبقى حقيقة الدولة الوطنية العربية منبع العمل العروبي الجماعي ومصدر قرارات المشاركة والتوحيد والقوة المتدفقة للمسيرة العربية القادمة، في إطار الالتزام بالشرعية الوطنية واحترام ذاتها، وتوجيه العمل العربي الجماعي في مسار الاجماع المقتنع، من دون الوقوف عند جاذبية الشعارات التي لا وزن لها في العمل الدبلوماسي الجماعي.