محمد السعيدي

 الانفتاح الذي بدأنا نبصره في المجتمع قد يكون حالُه كحالِ ذلك الذي مر علينا ابتداء من أواخر السبعينيات الهجرية من القرن الماضي وحتى بداية التسعينيات

 هناك تقسيم للمثقفين في السعودية، أول ما قرأته كان في كتاب «الإسلام المدني الديمقراطي» الصادر عن مؤسسة راند، والتي كان مكتبها للتغيير في الشرق الأوسط تحتضنه قطر، ولا أعلم إن كان لا يزال هناك حتى الآن.
يُقَسِّمنا التقرير إلى أصناف، أذكرها مع دلالتها وفق التقرير لا وفق ما أراه.
1. متطرفون: وهم يؤمنون بالإرهاب كوسيلة للتغيير ويُنَظِّرُون له.
2. متشددون: وهم من يؤمنون بالفتاوى السلفية التي تتبناها المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية.
3. إصلاحيون: وهم من يعتمدون الإسلام حلًّا في الجملة، لكنهم متحررون عن فتاوى المؤسسة الدينية الرسمية بدرجات متفاوتة.
4. ليبراليون: وهم المنفتحون على الغرب ولا يرون علاقة بين الإسلام والحياة العامة.
فيما يتعلق بي، فإنني بناء على هذا التصنيف أدخل -حسب زعمهم- في المتشددين، فأنا على قناعة تامة بفتاوى المؤسسة العلمائية الرسمية جملة وتفصيلا، فيما يتعلق بالمرأة وولايتها وعملها والاختلاط والتعليم وسد الذرائع والموسيقى والسينما، وغيرها من الفتاوى التي يدور الحراك حولها منذ أكثر من خمسة عشر عاما.
ومع ذلك أرفض أي وصف لي أو للمدرسة التي أنتمي لها بالتشدد، لأننا في كل ما تفتي به هذه المؤسسة وما نقبله من فتاواها ننطلق من دليل معتبر شرعا، ولا يمكن أن يكون أي حكم فقهي مبني على دليل معتبر متشددا، لأن مبنى الشريعة على التيسير، والتيسير هو ما تأتي به أدلة الشرع، لا ما تريده أنفسنا، بمعنى: أن كل حكم شرعي مبني على دليل معتبر داخلٌ تحت دائرة التيسير وإن تصورته أفهامنا وأهواؤنا شديدا، لأنه إما أن يكون يسيرا في ذاته؛ كالرخصة بالفطر في السفر نهار رمضان، فهذا لا إشكال فيه، وإما أن يكون شديدا في ذاته، لكن مآلات تطبيقه إلى تيسير الحياة وتحسينها، كالقصاص المفضي تطبيقه إلى إشاعة الأمن وتقليل العدوان، كما قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) [البقرة: 179].
أو المفضي إلى نعيم الآخرة وإن استثقلته الأنفس في الدنيا: ﴿سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ [الرعد: 24] فالنظرة شديدة الربط بين الدنيا والآخرة تجعل من دعوى العسر في أحكام الشريعة دليلا على قصور نظر من يقول بذلك لاعتباره الأثر الدنيوي للأحكام وحسب، والأحكام ليس المقصود منها الأثر الدنيوي وحده، فالله -عز وجل- يقول: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا﴾ [الإسراء: 18]، فالآية تؤكد: أن إرادة الدنيا بالأعمال لا تؤدي بالضرورة إلى تحقيق المراد الدنيوي، فإرادة الدنيا بالعمل ليست مضمونة النتائج دنيويا لكن عاقبتها الأخروية يقينية وفي غاية السوء، وذلك بعكس السعي في الدنيا من أجل الآخرة، فإنه يحقق العيش الدنيوي الطيب بشكل مؤكد، كما أنه يضمن سلامة المصير الأخروي، كما قال تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ [النحل: 97].
ولنتأمل وعده بالحياة الطيبة المقرون بلام القسم لمن عمل صالحا، فمعيار الشدة والتيسير وطيب الحياة ونكدها ليس حسيًّا بدنيًّا وحسب، بل هو تكاملي بين البدني والمعنوي، وليس مقتصرا على إرضاء النفوس، بل بالعمل لجعل رضا النفوس تابعا لرضا الله تعالى كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)، فالإيمان الكامل لا يتحقق إلا عندما تصبح لذائذ الإنسان ورغباته ومُتَعُه محكومة بما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، من أمر أو نهي.
وأرى بعيني ما يجري من الانفتاح على مخالفة فتاوى المؤسسة الرسمية، ومنه ما لا يزال أفكارا يتداول الإعلام النقاش حولها.
وأعتقد أن هذا الانفتاح طبيعيٌّ جدًّا، ويدخل ضمن سُنَّة كونية، وطَبِيعَة اجتماعية بشرية تنتظم المجتمعات والدول، فالمجتمعات حينما تُتْرك وحدها لتختار طريقتها في العيش وأسلوبها في التعامل مع الدين والفتوى، لا تصبر عادة على حال واحد، وتبحث عن التغيير كلما طال عليها الأمد على حال، حتى الأحوال المثالية النموذجية حينما يطول على الناس أمدها تتغير عليها نفوسهم، هكذا هي طبيعة النفس البشرية، وقد جاء في بعض الروايات التاريخية: أن الناس -وهم خير الناس- استطالوا حياة عمر وعثمان رضي الله عنهما، كما رواه ابن خلكان والصفدي عن سعيد بن سالم المكي [تـ190هـ] ولذلك لا تأخذ النفوسُ برهة من الزمن تطول أو تقصر على الحال الجديد، حتى تعود لما كانت عليه أو قريبًا منه، والمجتمع السعودي ليس بِدعًا من المجتمعات في الحاضر والسالف، فقد مر بمثل هذا التغيير، فبعد تَكَوُّن هذه الدولة الطيبة اختار الناس الفتوى العلمائية منذ وقت مبكر للدولة، وأطَّروا حياتهم العامة والخاصة بإطارها، ثم لم يلبثوا عقدين أو ثلاثة حتى بدَأَتْ تُلَاحَظ الكثيرُ من أشكال التخفف من تلك الفتاوى في الحياة الخاصة لكثير من الشباب وفي المناسبات العامة، إلا أنه مع كل ذلك ظلت الأصول والثوابت والمرجعية واضحة، ثم لم نلبث ثلاثة عقود أو أربعة حتى عاد المجتمع عمَّا شَرَعَ فيه من التخفف ورجع إلى حذافير الفتاوى الأُوَل وأصولها الاستنباطية، وربما المبالغة في تطبيق بعضها، ثلاثة عقود أو أربعة، وربما تكون سنواتنا هذه بداية رجوع إلى التخفف الذي سبق وفعله المجتمع، مع فروق في القوة يُحَتِّمها الاختلاف بين العهدين في مدى الانفتاح على الأمم الأخرى وما يؤدي إليه ذلك من فروق التأثر والتأثير.
وهذه النظرية في التحولات في سلوك المجتمعات يمكن تطبيقها في التاريخ الثقافي والاجتماعي لكثير من الأمم، إن لم يكن كلها.
هذا عن المجتمعات، أما الدول فالغالب عليها في كل زمان تأثُّرها بكل ما تتأثر به الشعوب من رياح ثقافية، إضافة إلى ذلك فهي كثيرا ما تجد أولويتها الأمنية والاقتصادية في مسايرة التيار العام في توجهاته.
لذلك أجد أن ما يحدث من انفتاح في بلادنا جارٍ وفق السنن الكونية، وإن تُرك المجتمع يتعامل مع المتغيرات بتلقائية، فأعتقد أن هذا الانفتاح الذي بدأنا نبصره في المجتمع قد يكون حالُه كحالِ ذلك الذي مر علينا ابتداء من أواخر السبعينيات الهجرية من القرن الماضي وحتى بداية التسعينيات منه.
وفهم هذه النظرية في التعاقب الثقافي مهم جدًّا، سواء أكان للمؤيدين لهذا الانفتاح أم للمختلفين معه.
فالفئة الأولى عليها أن تتعامل مع الماضي على أنه كان خيار المجتمع، وهذا يُحَتِّم عليها أن تتعامل معه باحترام وإنصاف، فالمجتمع حينما اختار ذلك النهج في الحياة لم يكن مجبرًا، بل كان سعيدا بتلك الحال وفخورا بها، والدولة بمؤسساتها الدينية والأمنية والسياسية حين حمت ذلك التوجه وشجعته كانت ترى فيه مناسبة لمبادئها التي قامت عليها، كما أن ما نتج عنه من تقاليد وعادات أصبحت بمثابة ما يُعرف في القانون بالنظام العام الذي تحميه جميع الدول على اختلاف أنظمتها الاجتماعية العامة.
وأيضا: القول نفسه أقوله للمعارضين لهذا الانفتاح، فالنظر إليه على أنه سلوك سياسي فقط هو نظر قاصر جدًّا، ويجب أن نعلم أنه خيار مجتمعي، ويجب علينا أن ندرك أن وجوده ناشئ عن عوامل عديدة، منها: التقصير في الدعوة، واحتواء الشباب وإقناعهم بوجهة نظرنا، والبحث عن البدائل.
وفي رأيي: أن ظاهرة الانفتاح ما زالت في بلادنا ضمن الحالة الطبيعية التي يمكن التعاطي معها بهدوء، لكن تضخيم الأمر واعتبار ما حدث شبيهًا بالانتكاسة الدينية أو الردة السياسية، هذا التضخيم هو الذي سيؤدي ليس إلى تضخيم الظاهرة وحسب، بل تعسير سبل علاجها، وإيقاعنا في وضع تحطيم الذات. وبالرغم من مظاهر الانفتاح التي قد لا ترضي بعضنا، فنحن نعيش في مرحلة بناء اقتصادي وعسكري واستقواء سياسي في منتهى الإتقان والجدية، فالنظر إلى الصورة فقط من خلال ما فيها من صورة من الانفتاح الثقافي -نختلف معها- سيؤدي حتما إلى أخطاء قاتلة في المعالجة.