سمير عطا الله

 كتب الدكتور مصطفى الفقي في «الأهرام» عن مرور 150 عاماً على إنشاء قناة السويس. وبما أن أمين مكتبة الإسكندرية هو مزيج من عالِم وسياسي ودبلوماسي وبني مصر، فقد تناول الموضوع بجميع هذه الأدبيات.

لا يضيف المرء إلى ما يكتبه الدكتور الفقي، الذي توجت حياته المهنية بأمانة مكتبة الإسكندرية. لكن وددت في هذه المناسبة، أن أدوّن خاطرة بسيطة: ما الذي كان أعظم فائدة لمصر، الكرنك أم القناة؟ أبو سمبل أم السد العالي؟ مدافن الفراعنة أم القطن؟
طبعاً التساؤل تجاوز على مبدأ المقارنات. كل إنجاز كان له عصره. قناة السويس، أو ضم البحرين الأبيض والأحمر، موجودة كفكرة وحلم منذ عدة قرون، لكن شقها أصبح ممكناً منذ 150 عاماً فقط. وكذلك السد العالي، لكن السؤال: ما هو أعظم، تمثال لأبي الهول تتفرج عليه الأجيال، أم جدول يروي الأرض ويعشبها ويمد الناس بكل أسباب الحياة؟ أن يبني محمد علي قصراً أم أنه أرسل إلى أوروبا البعثات كي يعمم العلم في مصر؟ شعر أحمد شوقي أم قرار طه حسين بأن يصبح العلم إلزامياً؟ المقارنة غير عادلة. وقد يكون الجواب أن ما أضافه شوقي إلى الأدب في مصر يعادل جامعة برمّتها. كل ما أردت قوله هو أن العظمة تقاس بما يلحق الناس من فوائد. والناس هنا بمعنى البشرية، أو الآخر.
منذ 150 عاماً وقناة السويس تدر على مصر الدخل والمجد الجغرافي. ومنذ 150 عاماً والجامعة الأميركية في بيروت تعطي المدينة مرتبة علمية ومكانة اعتبارية تحسد عليها. ومنذ 150 عاماً أيضاً ترفع من شأنها الجامعة اليسوعية التي تُخرّج منها ألمع الأدباء والمفكرين والسياسيين.
في بيروت متاحف كثيرة. كلها جميلة ورائعة وشاهدة على تاريخ لبنان. لكن الذي جعلها مصدر الثروات وحاضرة المشرق هو فكرتها، أن تكون ملتقى البشر الذين يصعب عليهم أن يلتقوا في ظل حرية مثل حريتها. في كتابه الجميل مثله «بيروت»، قال سمير قصير إن المدينة أصبحت «بابل اللهجات العربية» لكثرة ما لاذ بها من حالمين بالحرية وعطور الحياة.
جاءوا إلى هنا ومعهم عبقرياتهم وراحوا ينحتون لها صوره العزيزة بين مدن السراب. وأعتذر عن أنني أعددهم كل مرة، ليس ضناً بذاكرتكم، ولكن اعتزازاً بتذكر ما أضافوا إلى بابل من أعمدة: نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش وبدر شاكر السياب (آه عليك، يا بدر) ومحمد الماغوط (من أسماك شاعر البرية) وعبد الوهاب البياتي وأحمد الصافي النجفي، وحتى سمير قصير نفسه، ألم يكن شهيد لبنان، فلسطينياً سورياً؟
الناس يا عزيزي الدكتور مصطفى، مهما كانوا عبوريين، فهم التاريخ.