توم زويلنر 

يواجه الآن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في سعيه لتحرير الاقتصاد، خصماً قوياً خضعت أمامه من قبل مشاريع إصلاحية، ألا وهو اتحادات السكك الحديدية! ويريد «ماكرون» تحويل «الشركة الوطنية للسكك الحديدية» المملوكة للدولة إلى شركة مساهمة، وكبح المكافآت وزيادات الأجور التي تدفع إلى العمال، والذين يمكن لبعضهم التقاعد مبكراً في سنّ الثانية والخمسين. وقد ردّت الاتحادات بإضرابات متوالية عن العمل ستستمر حتى شهر يونيو المقبل، ومن الممكن أن تهدد انتقال 4.5 مليون راكب يستقل القطارات يومياً. ويراهن ماكرون على أن بمقدوره الفوز في المنافسة على تأييد الرأي العام، ويعوّل أيضاً على واحدة من القواعد الراسخة على مرّ التاريخ: إن تغيير أية دولة يمضي بالتزامن مع تغيير نظام سككها الحديدية.

وتقدم بريطانيا مثالاً قريباً ومفيداً. فشبكة السكك الحديدية الاستثنائية في الدولة انطلقت في أجواء فوضى الشركات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حاملة توقيع تطورات الثورة الصناعية، ومن ثم خضعت لسيطرة الدولة لتصبح شركة السكك الحديدية البريطانية في عام 1848 جزءاً من موجة التأميم التي أعقبت سنوات الحرب.

ومع تراجع رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر عن تلك الاتجاهات وخصخصة شرائح من الاقتصاد في ثمانينيات القرن الماضي، استهدفت السكك الحديدية، ونجح «جون ميجور»، خليفة «تاتشر» في تقسيم نظام السكك الحديدية، الذي كان موحداً في كيان واحد، إلى «25 وحدة تشغيل قطارات» تدار بحقوق امتياز، ومنذ ذلك الوقت، والسكك الحديدية البريطانية مصدر شكوى دائمة من الركاب، لكنها رمز قوي للرأسمالية البريطانية.

وإذا ما نظرنا إلى الولايات المتحدة، سنجد أنه كانت لديها قطارات تتسع لـ20 ألف راكب يعلو ضجيجها يومياً على طول ربع مليون ميل من السكك الحديدية النشطة، في دولة حيوية وقودها قطارات تعمل بالفحم والبخار. وبعد الحرب العالمية الثانية، ساعد ائتلاف قوي من شركات النفط في تكساس ومصانع السيارات في ديتريوت على سنّ قانون مساعدة الطرق السريعة الفيدرالية في عام 1956، والذي مثّل انطلاقة لشبكة الطرق السريعة بين الولايات الأميركية. وشجّع ذلك شركات السكك الحديدية على تقليل الخدمات المقدمة للركاب، وبعد أن كانت قطارات الركاب الأميركية شبكة قوية، تحولت إلى شركة «أمتراك» شبه الحكومية.

وتظهر النماذج العالمية الأخرى، في الماضي والحاضر، كيف أن التحولات الكبرى في الدول ترتكز على سككها الحديدية. فروسيا أصبحت قوة عابرة للقارات بمد قطاراتها إلى سيبيريا. ويُنسب الفضل لـ«بينيتو موسوليني» في تحديث خطوط السكك الحديدية الإيطالية. ووحدت بريطانيا آلاف المدن في مستعمراتها الهندية، ليس من خلال اللغة، وإنما عبر السكك الحديدية. وعلى الصعيد الفرنسي، تأتي دعوات إصلاح الشركة الوطنية للسكك الحديدية من الخارج، فيطالب الاتحاد الأوروبي أعضاءه بفتح سككها الحديدية أمام المنافسة بحلول 2019. ورغم ذلك، فإن «ماكرون» يستهدف مؤسسة، مع كل أمجادها وعيوبها، تمثل روح فرنسا ذاتها التي لا تبالي دوماً برياح السياسة العاتية منذ أن قدم نابليون بونابرت ضمانة حكومية لفوائد حاملي سنداتها في عام 1852.

وحملت السكك الحديدية الباريسية لمسات فرنسية خاصة، فحتى مقاعد الدرجة الثالثة مبطنة، مع جداول مواعيد في الأوقات كافة، إلى جانب فخامة خدمات القطارات فائقة السرعة، وطبقة من الموظفين المدنيين، الذين يصفون أنفسهم بـ«عمال السكك الحديدية»، في وظائف مدى الحياة، وإجازات مرضية مضمونة، ظلت مثار مزحة فرنسية قديمة تقول: «لابد أن العمل في السكك الحديدية خطير لأن موظفيها دائماً مرضى!».

ومنذ 1910، جعلت الاتحادات الإضرابات في السكك الحديدية شيئاً مألوفاً في الحياة الفرنسية، وسلاحاً يخشاه السياسيون الفرنسيون. وعندما كان «ألان جوبيه» رئيساً للوزراء، حاول إصلاح الشركة الوطنية للسكك الحديدية، فلم يستمر في منصبه سوى عامين بعد سلسلة من الإضرابات في 1995 حولت حياة المسافرين إلى مأساة، وجعلته منبوذاً. لذا، فإن ماكرون لا يحاول مجرد إلغاء قوانين، لكنه يحارب ثقافة عمل جذورها ممتدة ولها نفوذ قوي في أنحاء القطاعات الأخرى.

وفرنسا تشكل دراسة حالة نموذجية لشبكة سكك حديدية وطنية هي في حد ذاتها «دولة داخل دولة». وإذا ما نجح ماكرون في توجيه الشركة الوطنية للسكك الحديدية، ومعها فرنسا، في اتجاه مختلف، فإنه بذلك سيحقق صنيعاً يحتاج إلى جرأة نابليونية حقيقية!

*مؤلف كتاب: «السكك الحديدية.. استقلال القطارات التي شكلت العالم الحديث»

يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»