الياس حرفوش

كان لا بد أن يصل الاتفاق النووي مع إيران إلى المأزق الذي يواجهه الآن، الذي أصبح معه مهدداً بالانهيار وبعودة الأزمة مع طهران إلى نقطة الصفر. كثيرة هي العوامل التي جعلت هذا الاتفاق فاقداً التوازن منذ توقيعه، أهمها أنه أعطى إيران أكثر مما تستحق، وأخذ من الدول الغربية الأربع التي وقعت عليه (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) أكثر مما كان عليها أن تعطي. ولأنه بدأ بشكل غير متوازن، بحيث خرجت إيران منه معتبرة نفسها الطرف المنتصر، كان مصيره، مثل مصير أي اتفاق لا يلبي مصلحة كل أطرافه، هو السقوط، عندما تتغير الظروف التي سهلت التوصل إليه.

في الحالة الإيرانية، كانت تلك الظروف واضحة. النظام الإيراني كان يواجه قبل ثلاث سنوات، عندما تم التوصل إلى الاتفاق مع الدول الست (5+1)، أزمة سياسية واقتصادية عميقة، من جهة بسبب الصراع الداخلي بين جناح الرئيس حسن روحاني الذي أراد إثبات «شرعيته» في وجه المتشددين، عن طريق إقناع هذا الجناح بقدرة روحاني على الحصول على مباركة غربية للنظام الإيراني في مقابل التجميد الشكلي لأنشطة التجارب النووية، ومن الجهة الأخرى بسبب انعكاس العقوبات، التي كانت قاسية، على الحياة اليومية للإيرانيين وعلى مصادر دخلهم، وخصوصاً بين أولئك الذين لا يملكون القدرة على الاستفادة من مكرمات «الحرس الثوري»، الذي يدير شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية. وبلغ هذا التدهور الاقتصادي حداً صار معه مصير النظام نفسه على المحك، فأخذ قادته يوهمون قواعدهم بأن خطة الدول الغربية تسعى إلى التضييق على حياة الإيرانيين في إطار الحرب على النظام بهدف إسقاطه، وأن الخيار الوحيد في وجه هذه الخطة هو المواجهة و... الصبر. ولأن الرهان على المواجهة والصبر لم يعد مضمون النتائج، كان لا بد أن يسمح قادة إيران، وعلى رأسهم المرشد علي خامنئي، بالتوصل إلى تسوية خارجية لإنقاذ النظام، خصوصاً بعدما أثبتت تجربة الانتخابات الرئاسية علم 2009 أن صمت الإيرانيين إلى ما لا نهاية تحت شعارات «الممانعة» و«مواجهة الأعداء»، لم يعد مضموناً.

هذا في حالة إيران. أما على الجانب الآخر، فقد التقت مصلحة طهران مع الرغبة التي سيطرت على تفكير إدارة باراك أوباما آنذاك في تحقيق انتصار خارجي، مع قرب نهاية ولايته. كان مشروع أوباما يقوم على إسقاط الأسوار التي كانت تقوم بين الولايات المتحدة وأعدائها التقليديين، بأي طريقة كانت. إيران وكوبا كانتا على رأس لائحة المستفيدين من ذلك «الانفتاح الأوبامي». وهكذا، ففي الفترة التي كان يجري فيها التفاوض على الملف الإيراني، بوساطات سرية إقليمية، كانت اتصالات سرية مماثلة تجري بين الطرفين الأميركي والكوبي، كانت كندا إحدى محطاتها، وبنتيجتها تم التوصل إلى عدد من الاتفاقيات التي وصفت بالتاريخية، من بينها رفع كوبا عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب، ووقف القيود على سفر مواطني البلدين، وإعادة فتح السفارتين، والسماح للمصارف الأميركية بمعاودة أعمالها في كوبا. وتم تتويج تحسن تلك العلاقات بالزيارة التي قام بها أوباما إلى هافانا في مارس (آذار) 2016، وكانت الزيارة الأولى لرئيس أميركي إلى العاصمة الكوبية منذ عام 1928.

أما بالنسبة إلى الاتفاق مع إيران، فقد وضع أوباما نصب عينيه ضرورة تحقيق ذلك، واعتبره إنجازاً شخصياً تورثه إدارته للإدارات اللاحقة. ومع أن هذا الاتفاق الذي توصل إليه المفاوضون الستة مع إيران كان اتفاقاً مطلوباً ومرحباً به من حيث المبدأ من دول المنطقة ومن معظم دول العالم، باعتبار أنه يحد من مخاطر امتلاك نظام متشدد وطائفي كالنظام الإيراني للسلاح النووي، إلا أن التحفظات على ذلك الاتفاق كانت تتمحور منذ البداية حول ضرورة الاستفادة من تلك الفرصة، وهي حاجة طهران إلى رفع العزلة السياسية والاقتصادية العالمية عنها، من أجل ربط الاتفاق مع إيران بإلزامها الحد من تدخلها في شؤون الدول الخليجية والعربية المجاورة، والتوقف عن تسليح الميليشيات التابعة لها والملتزمة مذهبياً مع نظامها، والتي تعمل على نشر الاضطرابات والهيمنة على الأنظمة والحكومات في عدد من دول المنطقة، حتى بلغ الأمر بالقادة الإيرانيين حد المفاخرة بسيطرتهم على أربع عواصم عربية!

لم تثر تلك الملاحظات على الاتفاق التي وصلت إلى آذان الرئيس باراك أوباما والمسؤولين في إدارته أي اهتمام. ليس فقط لأنه كان قد حسم قراره بشأن التوصل إلى ذلك الاتفاق، بل كذلك لأن نظرته السلبية إلى العلاقات مع الدول العربية الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، منعته من النظر بواقعية إلى الخطر الذي تمثله إيران على مصالح تلك الدول، وإلى الترابط الوثيق بين ذلك الخطر والأضرار التي يلحقها المشروع الإيراني بالمصالح الأميركية نفسها، كما يتأكد من التهديد الذي يلحق بهذه المصالح في أي موقع تسيطر طهران عليه.

وهكذا صرنا أمام الوضع الصعب والمعقد الذي نواجهه الآن: إدارة أميركية جديدة ترى الثغرات في الاتفاق النووي مع إيران، وتسعى إلى تصحيحها، في حين لا تملك وحدها القدرة على إلغاء الاتفاق أو تعديله؛ لأنها أحد الأطراف الموقّعة عليه، في حين ترى الأطراف الأخرى (وفي مقدمتها بالطبع روسيا والصين)، فضلاً عن إيران، أنه اتفاق غير قابل للتعديل أو الإلغاء من طرف واحد. وتصر إيران على أن إلغاءه من جانب الولايات المتحدة سوف يدفع طهران إلى استئناف عملية تخصيب اليورانيوم في أجهزة الطرد المركزي في مفاعلاتها النووية. كما هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني أميركا بعواقب «قاسية» إذا انسحبت من الاتفاق، وكذلك فعل وزير خارجيته محمد جواد ظريف؛ ما يؤكد القناعة السائدة بأن تمسك إيران بالاتفاق النووي سببه أنه يخدم مصالحها ويوفر لها الغطاء الذي تحتاج إليه للاستمرار في أنشطتها في المنطقة، في ظل غض نظر غربي وعالمي عما تقوم به.

في مناخ كهذا سوف يكون مستبعداً أن يقبل الرئيس دونالد ترمب بالإبقاء على الالتزام الأميركي بالاتفاق مع إيران كما هو. 

والأرجح، كما ظهر من التصريحات التي أطلقها هو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارة الأخير إلى الولايات المتحدة، أن الاتجاه هو إلى وضع اتفاق مكمل يأخذ في الاعتبار الثغرات الموجودة في الاتفاق الحالي، وأهمها أربع نقاط: 1 – ضرورة السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة كل المواقع الإيرانية، بما فيها المواقع العسكرية التي تمنعهم إيران من زيارتها حالياً. 2 – ضرورة أن يشمل الاتفاق إنتاج إيران وتطويرها للصواريخ الباليستية. 3 – عدم تحديد الفترة التي تُمنع إيران فيها من القيام بأي نشاط نووي. 4 - ربط الاتفاق بالتزام إيران عدم التدخل في شؤون الدول المجاورة، وحل الميليشيات التي تنشط في هذه الدول برعاية وتمويل إيراني، وهو ما أطلق عليه ماكرون عبارة: احتواء نشاطات إيران الإقليمية.

بالطبع، لا يتوهم أحد أن إدخال هذه التعديلات على الاتفاق مع إيران سوف يكون سهلاً؛ أولاً لأن إيران سترفضها، وثانياً لأن طهران ستحظى بدعم روسيا والصين، الرافضتين للتعديلات، في حين يمكن أن تتبنى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موقف الرئيس الفرنسي الذي يميل إلى إرضاء ترمب من خلال إقناعه بالموافقة على الالتزام بالاتفاق بعد تعديله.

لن تكون المرحلة المقبلة سهلة في التعاطي الدولي والإقليمي مع إيران بعد 12 مايو (أيار)، الموعد الذي سيتخذ فيه ترمب قراره بشأن الاتفاق الإيراني. الصعوبة تأتي من ضرورة التوفيق بين تجنيب المنطقة مخاطر امتلاك إيران سلاحاً نووياً، وضبط توسعها الإقليمي الذي وفر «اتفاق أوباما» الغطاء له.

في النتيجة، كان يمكن تجنب الصعوبات التي تواجه المنطقة وأميركا والعالم في تعاملها مع المأزق الحالي لو تم تدارك الثغرات عند وضع الاتفاق، في وقت كانت إيران أشد حاجة إليه وأكثر ضعفاً مما هي عليه الآن.