تريليونا دولار غسل الأموال سنويا .. يلتهم 5 % من الناتج المحلي العالمي

 

 

 هشام محمود من لندن

منذ عقود وعمليات غسل الأموال، من أبرز الموضوعات التي نالت قسطا كبيرا من اهتمام الاقتصاديين، وتحديدا خبراء المصارف والمؤسسات المالية المحلية والدولية.

فتلك العمليات تترك بصمات مؤثرة في الأوضاع الاقتصادية المحلية للدول التي تتفشى فيها مظاهر الفساد وعدم الشفافية، ما يترك شكوكا حول جدوى الاستثمار طويل الأمد فيها.

وغالبا ما توجه عمليات غسل الأموال سهامها القاتلة للنظام الضريبي، فتضعفه بشدة، ليس فقط من منطلق خسارة الدولة لمليارات الدولارات التي كان من الواجب تحصيلها لاستخدامها في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وإنما الأخطر أنها تفقد النظام الضريبي مصداقيته، وتوجد انطباعا عاما بين المستثمرين المحليين والدوليين، بعدم جدية النظام الضريبي وإمكانية التهرب منه.

كما أن عمليات غسل الأموال تصيب الاقتصادات التي تعتمد على المشروعات الصغيرة في مقتل، حيث لا تمتلك تلك المشروعات الصغيرة القدرة على المنافسة، إذ غالبا ما يبيع غاسلو الأموال منتجاتهم بأسعار منخفضة، وأقل من التكلفة الحقيقية للإنتاج في كثير من الأحيان، حيث إن هدفهم لا يكمن في تحقيق الربح بقدر الرغبة في إضفاء المشروعية على أموال حصلوا عليها بطرق غير مشروعة.
وشهدت السنوات الأخيرة تحولا نوعيا في عمليات غسل الأموال، إذ باتت أكثر خطورة، وتأثيرا في المسار الاقتصادي الدولي، فاتسع نطاقها، وزاد اعتمادها على أساليب التكنولوجيا الحديثة، ونشطت مستغلة ثغرات النظام المالي العالمي إلى أقصى حد، وانتقلت في كثير من الأحيان من إطار الجريمة المنظمة، التي تقوم بها عصابات إجرامية، إلى وضعية جديدة تشارك فيها دول عبر رجال أعمال على ارتباط قوي بالأنظمة السياسية فيها.
وكرد فعل على هذا التطور كان من الطبيعي أن يتحول ملف الاهتمام والتصدي لتلك العمليات من النطاق الاقتصادي إلى النطاق الاستخباراتي، إذ لم تعد عملية مكافحة غسل الأموال حصرا على أجهزة الشرطة المحلية، وإنما تطلب الأمر أن يحتل التصدي لها أولويات ملفات الأمن القومي، وضرورة التنسيق بين الأجهزة الأمنية كافة في الدولة، بل توسيع نطاق التنسيق ليضمن تعاونا إقليميا ودوليا لوضع حد لاستفحال تلك الظاهرة، خاصة أن عديدا من المؤشرات تربط بين هذا النوع من الجرائم والإرهاب.
من جهته، يعتقد الدكتور ريتشارد فوستر أستاذ الاقتصاد الكلي أن الخطورة الراهنة لعمليات غسل الأموال، التي دفعت الأجهزة الأمنية إلى وضعها على قائمة أولوياتها تكمن في أنها تسمح لغاسلي الأموال أو القوى التي تقف خلفهم بالتحكم في الاقتصاد الوطني.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "زيادة العرض النقدي بصورة غير مخطط لها، أو خارج الأطر التي يحددها البنك المركزي، وهو ما يحدث من جراء عمليات غسل الأموال يؤدي إلى خفض معدلات الفائدة، ما يعني زيادة معدلات الاستهلاك من السلع والخدمات، ويتم ذلك عبر زيادة الاقتراض لسهولته وانخفاض تكلفته، ويوجد ذلك في الأمد الطويل زيادة مصطنعة في عديد من الأصول الوطنية مثل القطاع العقاري، إذ إن انخفاض أسعار الفائدة وسهولة الحصول على القروض يتواكب غالبا مع اتجاه المستهلكين إلى شراء الأصول العقارية، ويوجد ذلك فقاعات اقتصادية، سواء بطلب غير واقعي على الأصول، أو اقتراض الأموال دون أن يكون لدى المقترض قدرة مالية حقيقية للسداد".
وتشير تقديرات المؤسسات الدولية العاملة في مجال مكافحة غسل الأموال إلى أنه يتم غسل تريليوني دولار أمريكي كل عام، من بينهم نحو 1.2 تريليون دولار تعود إلى أموال الجريمة المنظمة.
بدوره، يقدر الخبير البريطاني السابق في وحدة مكافحة الأموال في شرطة اسكتلنديارد، قيمة عمليات غسل الأموال في العالم تريليوني دولار، وذلك بناء على معلومات مكتب الأمم المتحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة، إذ يقدر أن ما يراوح بين 2 و5 في المائة من الناتج المحلي لجميع دول العالم يذهب إلى عمليات غسل الأموال، ولا يمكن وقف تلك الظاهرة إلا عبر تعاون وتنسيق تام بين الأنظمة المصرفية في العالم".
ويحمل كثير من الخبراء الاقتصاديين المؤسسات المصرفية المسؤولية الأساسية لتفشي تلك الظاهرة.
سارة فاينلي المديرة التنفيذية في مجموعة نيت ويست المصرفية تقر بوجود عديد من الثغرات في النظم المصرفية حول العالم تمثل مدخلا ملائما للأشخاص الذين يقومون بعمليات غسل الأموال.
وتشير لـ"الاقتصادية" إلى أن المصارف الدولية أنفقت العام الماضي نحو ثمانية مليارات دولار للامتثال للقواعد المنظمة لمكافحة غسل الأموال، ومنذ عام 2008 عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية وحتى الآن دفعت البنوك غرامات تقدر بـ 321 مليار دولار بسبب الإخفاقات التنظيمية التي أتاحت الفرصة لعمليات غسل أموال.
وتضيف "القواعد المصرفية التنظيمية لمكافحة غسل الأموال في تزايد، ونظرا للتعقيدات المرتبطة بتلك القواعد زادت البنوك الدولية عدد العاملين فيها لسد الثغرات التي ينفذ منها المتورطين في غسل الأموال ثلاثة أضعاف عددهم عام 2011".
لكنها تحذر من أن الإفراط في تلك القواعد قد يحد من قدرة المصارف على توفير أداء سلس في معاملتها البنكية، بما قد يكون له تأثير سلبي اقتصاديا وماليا على عديد من الدول التي تعتمد على مرونة أنظمتها المالية لجذب الاستثمارات الدولية.
وتلك التحذيرات لا تنفي القلق الراهن في سوق العقارات في بريطانيا، بعد أن وجهت له سهام النقد الدولية بأنه بات مرتعا لعمليات غسل أموال واسعة النطاق، حيث إن السهولة النسبية لاقتناء الأجانب للعقارات في لندن دون معرفة تامة بتفاصيل أو شخصية المالك، أتاحت لعدد كبير من الراغبين في غسل أموالهم، بالاستثمار في سوق العقارات البريطاني.
وتقدر السلطات البريطانية الأموال التي يتم غسلها سنويا في المملكة المتحدة بـ100 مليار جنيه استرليني.
ويعتقد بعض الخبراء أن التضييق الدولي على عمليات غسل الأموال، قد يؤدي إلى سعي المتورطين في هذا المجال إلى البحث عن قنوات غير تقليدية.
ويوضح لـ"الاقتصادية"، الباحث الاقتصادي بي. جي. هولدن، أن العولمة جعلت العالم أصغر، كما أن التكنولوجيا المتاحة سهلت لغاسلي الأموال العمل بصورة أسرع.
ويقول "إذا كانت أجهزة مكافحة غسل الأموال قد زادت من قدرتها للكشف عن الأشخاص المتورطين في تلك العمليات، فمن الواضح أن الأسلوب التقليدي لغسل الأموال عبر شراء العقارات سيتراجع لمصلحة غسل الأموال بشراء شركات تعمل في مجال الخدمات المالية أو التكنولوجيا، فهذا النوع من الشركات أكثر ملائمة لغاسلي الأموال، وأكثر تعقيدا بصورة يصعب على العاملين في مكافحة غسل الأموال في اكتشافه".

إنشرها