إيران في مواجهة العالم... أو أميركا في مواجهة أوروبا؟

حسن منيمنة 

القناعة السائدة في الوسط السياسي في الولايات المتحدة في شأن إيران هي أنها دولة استبدادية توسعية، تقمع مجتمعها وتسعى إلى الهيمنة على جوارها. وإذا كان التطرق إلى ما تقترفه من قمع داخلي مسألة تتعدد وجهات النظر في شأن جواز الإقدام عليه من عدمه، فإنه لا خلاف حول ضرورة معالجة سلوكها الخارجي، بما يضمن المصالح الأميركية ويحمي الحلفاء. والنهج المعتمد، منذ أن دخلت إيران في هذا التوصيف، أي منذ ثورتها الإسلامية عام ١٩٧٩، هو التطويق والتضييق والاحتواء، مع اعتبارات عابرة للسعي إلى تبديل النظام.


وقد كان جلياً على مدى أكثر من عقدين بأن هذا النهج، وإن كان ناجحاً مرحلياً، لا يشكل حلاًّ دائماً، بل إن فعاليته أخذت تنخفض، مع تمكن إيران من التعايش معه، ومن استفادتها من ثغرات عدّة فيه لفتح خطوط علاقات مع دول هامة صاعدة، روسيا والصين والهند، ومن السير بتطوير برنامج تطوير نووي وصاروخي باتجاه تسلّح يبدل قواعد المواجهة. فكانت الولايات المتحدة أمام خيارين، إما التصعيد والسعي إلى كبح جماح النظام القائم في طهران، وصولاً إلى إسقاطه، أو القبول به واقعاً متحققاً والعمل إلى إيجاد التسوية المقبولة معه.

وإذا كان الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قد وافق على التوجه الصقوري ووضعه موضع التنفيذ، وصولاً إلى تحقيق حال منهك من الحصار الاقتصادي لإيران، وتعاون مع إسرائيل في السعي إلى تقويض البرنامج النووي بأساليب الحرب السرية، فإنه كذلك، كنتيجة عرضية خطيرة لحربيه في أفغانستان والعراق، أتاح لإيران تحسين مواقعها على مستوى المنطقة. أي أن حصيلة التوجه الصقوري لم تأتِ بالنتيجة المرغوبة.

وتداول السلطة في الولايات المتحدة ترافقه مراجعة في السياسات والتوجهات. وقلّ أن تتسم هذه المراجعة بكامل الموضوعية، بل غالباً ما تشكل فرصة للمناكفات السياسية بين الحزبين. وإذا كان الرئيس الحالي دونالد ترامب يصدح بمسعاه لتفتيت منجزات سلفه الرئيس السابق باراك أوباما، فإن أوباما، وإن دون الصلافة في التعبير، قد أمضى قدراً طويلاً من ولايته الأولى يطعن بسياسات سلفه بوش وإنجازاته. وحيث أفرط بوش بالصقورية، اجتهد أوباما باعتماد مطلق الحمائمية. وكما أن ترامب اليوم يتصرف بقناعة أنه لا حاجة لديه لآراء الخبراء لاتخاذ القرار، فإن أوباما قد سبقه إلى هذا الغرور، دون التبجح. أوباما قرّر من وحي قناعات ذاتية مفعمة بطروحات تسطيحية تعارض بين عمق الحضارة الإيرانية وضحالة ما عداها في الجوار، أنه قادر على تحويل إيران إلى شريك منتج يعوّل عليه، فسعى جاهداً إلى اتفاق ينجز ما لم يتحقق من خلال سياسة بوش المتصلبة.

ومسعى أوباما هذا انطوى على تفريط هائل بمقومات أساسية لسياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط على مستوى العلاقات مع الحلفاء، وهو، بالدرجة الأولى، جاء ليتخلى عن النجاح التراكمي في الضغط الاقتصادي على إيران. أتمّ أوباما اتفاقه مع إيران، بتأطير دولي متعدد الأطراف، إنما باعتراض داخلي في واشنطن يعتبر أن ما أقدم عليه هو صفقة تتعارض مع المصلحة الأميركية.

ذلك أن إيران حصلت من الولايات المتحدة على رفع لمنظومة العقوبات والقيود التي كانت تطوقها، بما يتبع ذلك من تأهيل تجاري واقتصادي يفتح لها أبواب العالم، واستعادت أصولها المالية التي كانت مجمّدة، وأعفيت من معظم الرقابة في تسليحها لأدواتها وحلفائها في المنطقة، ونالت إقراراً بأنها دولة نووية وإن مع وقف التنفيذ إلى أجل مسمى، كل هذا مقابل التعهد بعدم إنتاج السلاح النووي لعشرة أعوام، على أن يبقى الباب مفتوحاً أمامها لتطوير التقنيات المساعدة لهذا السلاح، مثل الصواريخ البعيدة المدى.

واستكمل أوباما هديته لإيران بأن ضمّن الاتفاق، وهو الذي رفض الكونغرس الأميركي إبرامه ليصبح اتفاقية ملزمة للولايات المتحدة بموجب دستورها، من خلال قرار من مجلس الأمن الدولي. أي أن خروج الولايات المتحدة منه، وهي الطرف الأول فيه، لا ينقضه، بل يجعل الولايات المتحدة نفسها هي المخالفة للإجماع الدولي.

نعم، يبدو ترامب على الدوام منشغلاً بمناقضة ما فعله أوباما، ويجنح في هذا الصدد أحياناً إلى خطوات غريبة. أما في موضوع الاتفاق مع إيران، فالمسألة ليست نزوات ترامب أو أهوائيته، بل سخط في الوسط السياسي في واشنطن، يتجاوز ترامب بأشواط، من إقحام أوباما للولايات المتحدة في تسوية كانت بغنى عنها وتمكين إيران من دون مبرر. غير أنه مع هذا السخط إدراك بأنه في الأمر معضلة. فالاستمرار بالتزام الولايات المتحدة بالاتفاق هو إذعان لما هو معارض لمصلحتها، ولكن خروجها منه لا يحقق هذه المصلحة كذلك، بل يضعها في موقع المأزّم للاستقرار. والطامة الكبرى هنا، إذا ما كان الانسحاب وفق وعيد ترامب، أن المواجهة لن تعود بين طهران والمجموعة الدولية، بل سوف تمسي بين واشنطن والعواصم الأوروبية التي وقّعت على الاتفاق وأبرمته.

هنا تكمن الفائدة بالاقتراح الذي سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إقناع ترامب به. الاتفاق القائم سيئ لأنه يقتصر على تعطيل برنامج التسلح النووي لعقد من الزمن. المطلوب قيود إضافية تجعل من هذا التعطيل دائماً، وتحظر على إيران تطوير الصواريخ البعيدة المدى، وتمنعها من الإضرار بدول الجوار. ولكن بدلاً من التخلي عن الاتفاق القائم، وفتح المجال أمام جدل عالمي الأفضلية فيه للجانب الإيراني المدعوم روسياً وصينياً، فإن الاقتراح هنا هو الشروع باتفاق إضافي تتوافق عليه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، يلزم إيران بهذه الشروط الإضافية تحت طائلة فرض عقوبات مكبّلة. أي أن المطلوب هو تفاوض أميركي- أوروبي ابتداءً، وصولاً إلى نص تدعى إيران إلى الالتزام به. وإذا ما أعترض الجانب الإيراني، أو الروسي أو الصيني، على أن هذه العقوبات تتعارض مع الاتفاق القائم، فإن الجواب هو بأنها لا تتعارض، وفق الفهم الأميركي والأوروبي للاتفاق الحالي والمعني حصرياً برفع العقوبات التي كانت مفروضة سابقاً لمعاقبة النشاط النووي. في الأمر سفسطة من دون شك، ذلك أن العقوبات الجديدة قد لا تختلف عن القديمة التي رفعت نظرياً إلا من حيث الغاية والقصد، ولكنها سفسطة خبرها ونشط بها كل من الجانبين الإيراني والروسي للاستفادة من رغبة أوباما أن يقنع نفسه بأنه ثمة منظومة دولية يمكنه التعويل عليها. والمنطق هو بالتالي أنها هذه بضاعتكم ردت إليكم.

ثمة من يرى في هذا الاقتراح سبيلاً ناجعاً لتجنب الخلاف الأميركي- الأوروبي، وعليه صدرت الآراء من وزارة الخارجية، غير أن ثمة من يرى أن الأمر لا يتعدى كونه مماطلة لا جدوى منها إلا تجنيب الأوروبيين الإحراج، وأن الأفضل الخروج من الاتفاق على الفور، ومنهم مستشار الأمن الوطني الجديد جون بولتون.

أما دونالد ترامب فيروق له ألا يعلم أحد ما يراه وما سوف يقرّره، إلى أن يحين الموعد في الثاني عشر من أيار (مايو).