السيد ولد أباه

لقد بدا من المثير أن يتداول عدد من أبرز المفكرين العرب موضوع «النهضة العربية» الأسبوع الماضي في عمان بالأردن، في مرحلة لا خلاف على كونها حقبة انهيار مريع للوضع العربي في مختلف جوانبه. المناسبة هي مؤتمر حاشد وناجح نظمته «منظمة النهضة»، وهي جمعية أهلية أردنية تعنى بالعمل الخيري والتنموي، وسعت من خلاله إلى مراجعة نقدية شاملة لحصيلة قرنين من محاولات النهوض العربي مع تلمس الآفاق المنظورة والممكنة لهذا الطموح الذي حرك الوجوه الإصلاحية مشرقاً ومغرباً منذ القرن التاسع عشر.

ومعلوم أن مفهوم النهضة نفسه مستمد من الأدبيات الأوروبية الحديثة، ويعني إجمالًا لحظة الخروج من العصور الوسطى التي نعتت بعصور الانحطاط، وقد كرس دلالتين أساسيتين في تاريخ الأفكار الأوروبي، هما: المرجعية اليونانية الرومانية لثقافة أوروبية مشتركة، وتشكل نزعة إنسانية كونية ستتحول صياغاتها الفلسفية النظرية وفق ثلاثة مفاهيم كبرى، هي: الإصلاح والتنوير والحداثة.

بيد أن المشكل الذي تطرحه هذه الرؤية هو كونها تؤسس لإقصاء الرافد الإسلامي الشرقي من حركة تشكل الكونية الإنسانية الحديثة من خلال مسلمتين لا تثبتان أمام النقد والتمحيص، هما من جهة تأكيد القطيعة بين الموروث اليوناني والتقليد العربي الإسلامي، والفصل الجذري بين المفاهيم والقيم الحداثية من جهة والسياق الوسيط في تفاعلاته الثقافية الكثيفة.

ودون الخوض بالتفصيل في هذا الموضوع، نكتفي بالإشارة إلى أن القول بغربية الثقافة اليونانية يرجع إلى العصور الأوروبية الراهنة من خلال الربط غير الدقيق بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي الوسيط، والحال أن التقليد اللاهوتي تشكل في قطيعة كلية مع الفلسفة اليونانية (بما يرمز له إغلاق مدرسة أثينا عام 529 لأسباب دينية، ومن ثم انتقال الفلسفة إلى الشرق العربي عبر مدارس الإسكندرية وبلاد الشام). وكما يُبين «آلان دي لا بيرا» في دراساته الرائدة حول العصر الوسيط، فقد تعامل اللاتينيون في بدايات عصور النهضة الأوربية على أن الفلسفة نتاج شرقي إسلامي ولم يميزوا بين رافديها اليوناني والعربي المتداخلين. من وجه آخر، يُبين «دي لا بيرا» أن الأفكار الحداثية والتنويرية على جدتها تنتمي لسردية طويلة لها محطتها الوسيطة المحورية التي لا يمكن القفز فيها على اللحظة العربية الإسلامية، بما هو بارز في الإشكالات الكبرى التي هيمنت على الأفكار الحديثة، وفي مقدمتها المسألة الذاتية التي يعزو لها هيغل نشأة العصور الحديثة.

ما يهمنا من خلال هذه الملاحظة التمهيدية هو الاعتراض على الأطروحة السائدة بالفصل بين قارتين ثقافيتين، شرقية إسلامية وغربية أوروبية، لتنزيل موضوع النهضة في خط التداخل الكثيف بين عالمين حضاريين مترابطين ماضياً وحاضراً. ومن ثم يصبح السؤال الذي يحتاج لجواب مقنع هو: لماذا نجح مشروع النهضة الأوربية وأخفق التطلع النهضوي العربي في لحظة التزامن مع التجربة الأوروبية (القرن الرابع عشر) واللحظة الإصلاحية الحديثة (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)؟

للإجابة على ذلك السؤال، يتعين التنبيه إلى أن مشروع النهضة الأوروبية كان أساساً من نتاج الفلاسفة الأوروبيين الذين بلوروه بمعنى النزعة الإنسانية التي تجسدها هوية أوروبية مشتركة اعتبرت الديانة المسيحية أرضيتها الصلبة (بمعناها الحضاري لا العقدي اللاهوتي).

بدأ المشروع واضحاً مع المفكر الإيطالي «دي لا مراندول» في رسالته الشهيرة حول الكرامة الإنسانية (1487) التي دعا فيها إلى تحقيق «الانسجام بين العقول الأوروبية» من خلال مفاهيم إنسانية كونية جامعة تستند للمرجعية القيمية للمسيحية في تأويلية إصلاحية جديدة. نفس المشروع هو ما سنلمسه لدى الفيلسوف الألماني «لايبنتز» الذي سعى في نهاية القرن السابع عشر إلى بناء الوحدة الروحية والعقلية لأوروبا، ونجح في استمالة بعض أبرز وجوه الحكم والفكر لهذا المشروع الطموح. وفي القرن الثامن عشر تبنى «فولتير» المشروع ذاته معتبراً أن عصره بدأ يشهد من خلال النخب التنويرية المنتشرة في القارة قيام «جمهورية هائلة من العقول المثقفة». وعندما أصدر «هوسرل» عام 1935 رسالته حول أزمة الإنسانية الأوروبية في مرحلة صعود النازية التي مزقت أوروبا، كان يستشعر الأزمة النظرية والقيمية التي يعاني منها مفهوم «الكونية الإنسانية» الذي اعتبر أنه أساس الهوية الأوروبية.

هل يعود إخفاق مشروع النهضة العربية في سياقيه الوسيط والحديث إلى العجز عن تحقيق النقلة التي تمت في أوروبا من أفق الملة إلى أفق الكونية الإنسانية، بما لهذه النقلة من استحقاقات تأويلية وعملية في موضوع الدين من حيث حضوره في الوعي والمجال العمومي؟